الوجوه التسعة لا توحي بأي خطيئة. كأنها لأعضاء فريق فني، يؤدي الاغنيات العاطفية التي يكتب كلماتها وألحانها بنفسه، او يقدم العروض المسرحية الكوميدية أوالتربوية الموجهة للاطفال. الابتسامات التسع بدت كأنها تعبر عن الشكر والتقدير لجمهور ذواق، يشجع المواهب الشابة ويكرمها.
الصورة الجامعة للشبان التسعة الذين فقدتهم مصر بالامس، في غفلة من الزمن، كانت صادمة، مفجعة. لم يسقطوا في تحطم طائرة او في حادث سير، لم يقعوا ضحية الصدفة في تفجير إرهابي.. كان الزعم أنهم "خلية"، مع أن الادعاء لم يقدم دليلا على أنهم إجتمعوا معا في مكان واحد غير تلك الصورة ، او غير تلك القاعة التي شهدت إعدامهم.
أعمارهم الفتية التي لم تتجاوز الثلاثين سنة، كانت بمثابة أدلة براءة دامغة. بعضهم كان دون العشرين عندما قامت ثورة يناير 2011، ولعله لم يشارك في أي من تظاهراتها أو إعتصاماتها المليونية. بعضهم لم يكمل تعليمه الجامعي، لكنه كان يعرف مساره التخصصي العلمي. جميعهم لم يبلغوا سن حمل السلاح، ولا طبعا سن التجروء على المشاركة في عملية أمنية مروعة، إستهدفت المسؤول القضائي الاعلى في مصر، وكانت تقف خلفها على الأرجح أجهزة، أو حتى دول.
ساهمت الصورة في تكوين الانطباع، بأن خطأ ما قد حصل في نقل الخبر الذي لا يصدق: الاعدام دفعة واحدة لتسعة من الشبان الواعدين، الحالمين. أي دولة تقدم على هذه الخطوة اليائسة؟ أي سلطة تغامر بإستخدام هذه القوة الغاشمة بحق أهلها ؟ أي محكمة تناقض شروط العدالة وأحكام القانون؟.. أي مصر هي تلك التي ستبقى بعد أن تشيع أبناءها التسعة الى مثواهم الاخير؟
فات أوان النقض والاستئناف، ولم يبق سوى البراهين المتلاحقة على أن الدولة المصرية ومؤسساتها تتحلل بسرعة لم يسبق لها مثيل، ومن دون أي تهديد جدي يواجهها سواء من الداخل او الخارج.. ولن يبقى سوى الشكوك في أحكام الاعدام المتسرعة برغم القرائن العلنية بالتعذيب، وبالتعجيل في محاكمة طعن بها حتى أهل الضحية، بإعتبارها محاولة متسرعة لإسترداد الهيبة، وربما لتجهيل الجهة الفاعلة، من خلال تقديم القرابين التسعة الابرياء على مذبح طقوس الموت ورقصاته الجنونية، التي تتوالى عروضها الآن في أرض الكنانة.
نامت مصر ليلتها أمس على ذلك العرض المأساوي المدمّر: الدولة تبطش بكل قوتها، وتنذر كل شاب وفتاة بأنها لن ترحم، ولن تقبل الاسترحام. وهي تعي تماماً أن عملية الاعدام الجمعية يجب ان تكون الضربة القاضية لجيل مصري كامل، باتت خشيته مضاعفة من السلطة ومؤسساتها، ومن قدرتها على إرتكاب الخطايا، بل والتباهي بها.
هي المرة الاولى في تاريخ مصر الحديث التي يشعر فيها الحكم أنه بحاجة الى هذا القدر من العنف، الى ذاك النوع من الترهيب للمجتمع، من دون أن تكون في مواجهته معارضة جدية تشكل خطراً فعلياً على بقائه، ومن دون أن تكون الخلايا والشبكات الارهابية أكثر من مجرد تهديد أمني محدود، لا يعطل الحياة ولا يعرقلها حتى في أقاصي سيناء نفسها، ويشبه التهديدات الامنية التي تواجهها معظم دول العالم منذ زمن بعيد.
أغرب وأخطر ما في تلك المأساة المصرية، أن الحكم لم يكن بحاجة (سياسية او أمنية) فعلية لتنفيذ عملية اعدام الشبان التسعة، المنافية حتى للتقاليد الامنية والسياسية المصرية، والمشابهة للتقاليد الليبية او السورية او العراقية. فالتمديد للرئيس عبد الفتاح السيسي لعقدين مقبلين، أو حتى الممات، يسير على ما يرام، من دون أي صعوبة تذكر. والغالبية الساحقة متوافرة في الخارج قبل الداخل، والتغطية مضمونة لبرنامج عسكري أمني يقيد مصر لردح طويل من الزمن.
لماذا يتعمد أصحاب هذا البرنامج إثارة الحقد والكراهية والبغضاء، مع علمهم الأكيد ان الصورة لن تمحى من الذاكرة المصرية؟
سؤال قديم ، سيظل يطرح في مصر وفي كل دولة عربية.