يصعب جدا حصرُ الحرائق والمجازر والمظالم والمآتم التي نثرتها دولة الخلافة الإسلامية الخمينية على أغلب الدول العربية، وذاق مرارتها الملايين من العراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين والفلسطينيين، وشعوبٌ وحكومات عربية وإسلامية أخرى لم تتوقف المؤامرات والمشاكل والقلاقل التي يدبّرها النظام الإيراني ضد أمنها واستقرارها، ولكنها تمكنت من صدها، بعد أن دفعت أثمانها الباهظة من مواردها وطاقاتها، وأحيانا من دماء أبنائها.
فقبل نجاح الخميني في تأسيس نظام حكمه العدواني الطائفي المتخلف الذي ألبس أحقاده وثاراته التاريخية النائمة لبوس الثورة الإسلامية التحريرية الموحِّدة، لم يكن للعرب من عدو غير إسرائيل، ولا من همٍ سوى الهمّ الفلسطيني، ولا من هدف سوى تحرير الأرض المغتصبة وإعادة الحق إلى أصحابه الفلسطينيين.
فقد كانت كل مدينة أو قرية عربية، من المحيط إلى الخليج، تشتعل غضبا، وتثور وتخرج عن بكرة أبيها هاتفة بموت إسرائيل، ومطالبة حكوماتها بفتح باب التطوع لقتالها حين يرتكب إسرائيلي واحد ولو عدوانا صغيرا على مواطن عربي في فلسطين.
ولكن بعد أربعين عاما من جرائم القتل والذبح والحرق والاغتيال والتفجير والتهجير التي ارتكبها النظام الإيراني، مباشرة بجيشه أو حرسه الثوري، أو بواسطة ميليشياته اللبنانية والعراقية والسورية واليمنية والبحرينية والفلسطينية، راحت حرارة غضب الجماهير العربية تبرد، وسخونة ثورتها تخف، وتسكت ولا تتكلم، ولا تخرج من ديارها متظاهِرةً مطالبة بالثورة، كما كانت، وهي ترى وتسمع الأخبار المحزنة التي تتحدث عن اعتداء جنود ومستوطنين يهود على مواطنين فلسطينيين، ومصادرة أرضهم، وإهانة كراماتهم، واغتصاب أرزاقهم، وذلك لأنها صارت ترى همومَها وعذاباتها وآلامها وأحزانها ومآتمها التي يصنعها “المجاهدون” الخمينيون وميليشياتُهم أكبر وأخطر من أي شيء آخر.
بعبارة أخرى لقد صارت الجماهير العربية ترى أن إيران التي تحتل بلادها وتقتل وتنهب وتُخرب وتغتال وتُفجر، كل يوم وكل ساعة، جعلت مظالم اليهود تبدو أقل ضررا وأخف وأهون.
شيء آخر. لقد كانت الجماهير، إلى الأمس القريب، في جميع الدول العربية، لا تتسامح ولا تهدأ ولا تغفر حين تكتشف أن مسؤولا عربيا صافح مسؤولا إسرائيليا في مؤتمر أو منتدى، حتى لو بالمصادفة العابرة.
أما اليوم فهي حين ترى وزراء وسفراء عربا كثيرين لا يصافحون الإسرائيليين فقط، بل يتبادلون معهم الأحضان والقبلات، ويدعونهم لزيارتهم في عواصمهم العربية، أو يسافرون إليهم سرا أو علانية، تغضب قليلا، ثم تهدأ وتنسى، وكأن شيئا لم يكن.
وهذا الواقع ليس وليد اليوم، بل هو عمل دؤوب وجهد منظم ومدروس من أربعين سنة.
فقد كانت البداية من اليوم الذي تَسلم فيه صدام حسين مقعدَ الرئاسة في العراق، وعاد الخميني من فرنسا لتأسيس نظامه الطائفي المتشدد، في توقيت واحد عجيب وغريب.
ثم جاءت حربُهما التي دامت ثماني سنين لتمنح الإسرائيليين فرصة لا تعوض لشق العرب إلى فريقين، فريقٍ مع صدام المدافع عن البوابة الشرقية للوطن العربي، وآخر مع الإمام الآتي لتحرير فلسطين، ولكن بعد إسقاط الحكومات العربية التي حكم عليها بالكفر والخيانة. وتذكّروا ما تم كشفه من أسرار تلك الحرب.
فالولايات المتحدة، ودول حليفة لها، كانت تغدق على صدام حسين بالسلاح والمعلومات الاستخبارية لمنع إيران من الانتصار عليه.
بالمقابل كانت إسرائيل تُهرب السلاح والمعلومات الاستخبارية إلى إيران للحيلولة دون انهيار الجبهة الإيرانية، ولضمان عدم قبول الخميني بوقف إطلاق النار.
فقد كشف روذن برجمان عن قيام إسرائيل ببيع أسلحة من مخزون الصناعات العسكرية الإسرائيلية، وصناعات الطيران الإسرائيلي، ومخزون قوات الدفاع الإسرائيلية. 150 مدفع إم 40 المضاد للدبابات مع 24.000 قذيفة لكل مدفع، وقطع غيار لمحركات الدبابات والطائرات، وقذائف 106 مم و130 مم و203 مم و175 مم، وصواريخ بي جي إم 71 تاو. وقد تم نقلها جوًا بواسطة الخطوط الجوية الأرجنتينية، إلى الأرجنتين ومنها بحرا إلى إيران.
ثم جاء الغزو الأميركي الذي فتح أبواب العراق لإيران وأموالها وأسلحتها لتحتله احتلالا كاملا، وتتخذ منه منطلقا لها إلى سوريا ولبنان وفلسطين، فكان للإسرائيليين خدمةً لا تقدر بثمن.
حيث وجدت إسرائيل في التوسع الإيراني في الدول العربية، وما رافقه من إرهاب وتخريب وتجويع وتهجير، فرصة لخلق عدو أشد ظلما وقسوة منها، وأكثر همجية.
وهكذا نجح الأميركان والإسرائيليون، ومعهم الأوروبيون والروس، في تحويل إيران إلى العدو الخطير رقم واحد للعرب، وإسرائيل إلى العدو الأقل خطورة.
وهنا صار طبيعيا وواقعيا أن ينظر العرب إلى إسرائيل بغير عيون الخمسينات والستينات والسبعينات.
حتى صار عرب كثيرون يتقبلون فكرة التعاون معها، على الأقل لوقف التوسع الإيراني في المنطقة، وشل قدرات النظام الإيراني على تمويل جيوشه وميليشياته في بلادهم.
ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المدرك جيدا لحقيقة أن صواريخه التي يطلقها على إيران في سوريا، صدقا أو للاستهلاك الإعلامي والسياسي، والتي تَشفي غليل كثيرين من عرب سوريا والعراق ولبنان وفلسطين واليمن والبحرين والسعودية والإمارات، سوف تقربه منهم زلفى.
ولكن لا أحد يتحمل مسؤولية هذا الخلل المعيب في المزاج العربي الرسمي والشعبي سوى ملالي إيران الذين عملوا في أربعين عاما على تحويل إسرائيل في نظر الأمة العربية من مغتصب إلى حليف. فهي لا تخرج من حدود كيانها ولا تؤذي إلا من يؤذيها من الفلسطينيين واللبنانيين. ثم جعلوا الدولة الإيرانية (الإسلامية) الشقيقة في العقل العربي هي الذئب الشرير المتعطش إلى الدم، والذي ينشر ظلمه وعدوانه على الجميع، لا فرق بين كبير وصغير، ولا بين مذنب وبريء.
بمعنى آخر، إن لهؤلاء الملالي، الجهلة المغرورين، الفضلَ في تحويل إسرائيل من العدوة الأولى إلى صديقة.
أليست هذه هي الجريمة الأكبر والأخطر من جميع الجرائم التي ارتكبها الملالي، في أربعين عاما، وهم لا يعقلون؟