1- الذين يديرون حياتنا العامة في لبنان، وبعضهم فاسد مودرن وبعضهم فاسد بدائي، لا بد استوقفهم نبأُ إلغاء شركة أمازون، عملاق التجارة الديجيتالي، لمشروعها بفتح مركز قيادتها الرئيسي الثاني في الولايات المتحدة في نيويورك بعد الأول في سياتل.
المشروع الذي كان سيأتي معه بخمسة وعشرين ألف وظيفة جديدة وبمعدل رواتب عام يبلغ المئة وخمسين ألف دولار إلى “التفاحة الكبيرة” المسمّاة نيويورك. هذا حين يصدر ليس مجرد رقم افتراضي، إنه رقم حقيقي في الاقتصاد الافتراضي الذي بات أكبر حقائق عصرنا.
الدرس الأساسي مما حدث مع أمازون هو، رغم الوجوه المتعددة للموضوع، أنه لا يمكن إهمال الضوابط المالية الاجتماعية لأي مشروع اقتصادي حتى على هذا المستوى من حضور شركات رائدة بل هي إحدى شركات كبرى ترسم صورة القرن الحادي والعشرين في النمط التجاري الفردي على الأقل.
نجح يساريو الحزب الديموقراطي النيويوركيون في اعتبار الإعفاءات الضريبية التي تريدها الشركة غير منصفة لخزينة المدينة كما وضعوا اعتراضات على تأثير اختيار المكان في رفع كلفة المعيشة وخصوصا في الإيجارات. الجمهوريون اعتبروا النجاح في دفع الشركة إلى سحب مشروعها خسارة لنيويورك محاولين تظهير صورة الديموقراطيين على أنهم “قتلة وظائف”.
ومع أن الإعفاءات الضريبية تصل إلى أكثر من ثلاثة مليارات دولار، ومع أن مشروع بناء وافتتاح أمازون لمركزها الثاني يحظى بحسب استطلاعات الرأي بترحيب غالبية نيويوركية، ومع أن منطق تعامل حكومة مدينة أساسية وعالمية داخل المنظومة الأميركية مثل نيويورك لا يمكن مقارنته مع أوضاع دول متخلفة مثل لبنان أو غيره لأننا في لبنان في وضع نتوسّل فيه افتتاح شركات كبرى مراكز صغيرة عندنا… مع كل ذلك علينا أن نتلقف درس الضوابط:
لا تشتري شركةٌ حاجةَ أيِّ مدينة أو دولة بمجرد الوعد بخلق الوظائف. فحتى في حكومة مدينة كنيويورك نعرف بالنتيجة أنها لن تبدد عائدات خزينتها على الفساد والهدر، وحتى في دولة اقتصاد حر كالولايات المتحدة، شديد الحرية في الرضوخ لمتطلبات السوق خلافا لأوروبا الغربية، الرأسمال ليس متوحشا في الانفراد بأي سوق.
بالنسبة لبلداننا المنكوبة بالفساد، التخلف يجعل الرأسمالية بذاتها متوحشة حتى لو وجدت ضوابط نصوصية في القانون.
2- المعنيون النافذون في لبنان اعترفوا إذاً بالتعيينات التي قاموا بها في أجهزة الدولة منذ عشية الانتخابات إلى اليوم في وقت، يا للوقاحة، أول إصلاحات “سيدر” التي يتشدّقون بها هي وقف التوظيف في الدولة. لا بل كانت المفاجأة أننا كنا نعتقد أن الرقم المتداول المخيف للتعيينات هو خمسة آلاف وبضع مئات فإذا بوزير المال في جلسة الثقة، مشكورا، يكشف عن رقم مضاعف: عشرة آلاف مع التعيينات العسكرية خلال بضعة أشهر. هذا يعني أن هذه الطبقة السياسية تحسن ليس فقط الحصول على سمسرات ضخمة لم تتوقف في الكثير من المجالات بما فيها تلزيمات لا تخطر على بال، بل تحسن أيضا رشوة المجتمع اللبناني عبر التوزيع الطوائفي، بل تعرف أيضا كيف تحصل على قوة اجتماعية فاعلة تقليديا وكيف تعززها مع سلسلة الرتب والرواتب. يجب الاعتراف بأن هذه الطبقة ولو بمزيد من الاستدانة والمجازفة قامت بعملية توزيع للثروة على قطاع اجتماعي واسع يدين بالولاء لها ويجب أن يحفظ لها “جميل” عطاءاتها بمختلف الرتب، وبينها رتبٌ باتت هارفارديةَ الرواتبِ (من هارفارد).
فكرة التوزيع الواسع للثروة التي تقوم بها الطبقة السياسية على بيروقراطية الدولة الواسعة، وهي الآن تقارب بحسب تقديرات منسوبة لحاكم مصرف لبنان حوالى ثلاثمئة ألف شخص من دون عائلات الموظفين، أما مع العائلات فلن يكونوا أقل من ربع اللبنانيين المقيمين المقدّرين بأربعة ملايين ونصف مليون نسمة (الدولية للمعلومات ذهبت أبعد: تحدثت عما يقترب من أربعمئة ألف موظف مع المتعاقدين؟؟؟).
هذه مسألة جادة جدا: فالموظفون الرسميون خصوصا كلما تقدمت الرتب، باتوا أسرى فضل الطبقة السياسية، ويجب للدفاع عن مصالحهم أن يكونوا مع هذه الطبقة لا مع غيرها.
إذاً الطبقة السياسية بكل فروعها الأساسية هي في أقوى أيامها نفوذا بين “النخب” الدولتية اللبنانية السعيدة (السعادة كمعطى اقتصادي).
المسألة الثانية: هي أن التوزيع للثروة الدولتية، ولو بالمديونية الخطرة، يُنشِئ حاليا “حربا أهلية”حقيقية وغير معلنة بين طبقات القطاع الخاص وطبقة القطاع العام بشرائحها المختلفة. القطاع الخاص بعائلاته يموِّل بالضرائب التي تنفق على عائلات القطاع العام.(دعك على حدة من مسألة تمويل المصارف لمديونية الدولة).
هذه حرب أهلية بالضرورة تميّعها الطبقة السياسية بكاملها وتملك، رغم حقيقتها، أن تكبت مفاعيلها بل حتى إعلانها.
إذاً:
– دولة تافهة الخدمات في البلد الرائع.
– المجتمع والنخبة موظفان عند الطبقة السياسية بطائفياتها السياسية المختلفة: دولة تافهة ونظام قوي.
– إذا عُثِر على بعض الإصلاحيين في إحدى جامعات بيروت، فبالتأكيد لا قوى إصلاحية في لبنان.
… سيثبت أن مكافحة الفساد هي بقايا كذبة كبرى: لبنان دولة غير قابلة للإصلاح … على يد هذه الطبقة السياسية.