اتخذ الرئيس سعد الحريري موقفاً متقدّماً على قاعدته الشعبية، انسجاماً مع موقف وزيرة الداخلية، ريا الحسن، تجاه الزواج المدني. لكن اللافت أن الحريري جوبه برفض قاطع ومطلق، من قبل بعض النواب في كتلته مثلاً، ومن قبل دار الفتوى، ومن قبل جمهوره.
ترييف الجماعة
ليست المرّة الأولى التي يظهر فيها الشرخ بين توجهات الحريري، السياسية أو الاجتماعية، وبين جمهوره. لطالما حاول الحريري إبراز تياره كتيار عابر للطوائف. في كل محطّة سياسية أو انتخابية يسعى إلى تكريس ذلك، لكنه غالباً ما يجد نفسه محرجاً من أبناء بيئته وجمهوره. فالجمهور السنّي يعتبر نفسه بحاجة إلى زعيم يحتكره، بمعنى أن السنّة يريدون من الحريري تمثيلهم ولا تمثيل أحد غيرهم.
مردّ هذا الشعور السنّي، والذي يفرض نفسه في حالة مواجهة مع ممثليه أو زعاماته، هو تحولهم إلى طائفة، بمعنى الجماعة المعتصبة لهوية مذهبية - سياسية. ما يعني دخولهم في لعبة الطوائف. وهو بالضبط الأمر الذي أراد الحريري دوماً الخروج منه، من خلال تمثيل تيار المستقبل بنواب ووزراء مسيحيين وشيعة..، غالباً ما تحاول قاعدته الشعبية أن تكبحه عن ذلك، وحصره في تمثيلها فقط. وهذا يدلّ على الصراع الذي تعيشه هذه البيئة، مع نفسها ومع زعامتها. الأساس في رفض الجمهور السنّي بغالبيته لفكرة الزواج المدني، لا بد من ربطها بترييف المجتمع السنّي، وابتعاده عن أنماط العيش المديني الذي لطالما كان يعيشها برحابة تاريخية موصوفة. البيئة السنية أصبحت بغالبيتها ريفية. وهذا ما نلمس تأثيراته وتداعياته، على الأصعدة السياسية والإجتماعية.
المؤسسة الدينية والمواطنة
قبل سنوات، سُئل الحريري عن موقفه من الزواج المدني، فأقرّ أنه يؤيده اختيارياً، وإن كان لا يختاره لنفسه. وهذا التعبير نوع من مراعاة البيئة والجمهور. البيئة نفسها، حتّى الآن، ترفض النظر إلى الأمر بأنه مطروح اختيارياً وليس إلزامياً. وفي السياق الذي اقترحت فيه الوزيرة ريا الحسن الشروع في حوار، لأجل إقرار الزواج المدني الاختياري، ما يعبّر عن رأيها الذاتي، وعن ثقافة معاشة من قبلها. هي لم تشر إلى أي إجراء تطبيقي في هذا الصدد. حدود الموافقة المبدئية من قبل الرئيس سعد الحريري، مؤشّر إيجابي. ولا بد من الثناء عليه. لكن البحث في هذا الموضوع، يجب أن يحدث في غرف مغلقة، بين هيئات تؤيد الزواج المدني وأطراف أخرى ترفضه.. على أن يكون الجميع معنياً، بشكل جدّي وجوهري، في هذا الملف، وبعيداً من المزايدات الإعلامية، وسحب كل ما يختزل فكرة الزواج المدني بأنه ضد الدين، والتركيز على أنه ليس ضد الدين، بل ضد المؤسسة الدينية. والشروع في تطبيقه هدفه تطبيق جزء من مفهوم المواطنة والمساواة بين عموم المواطنين، خصوصاً أنه سيكون "اختيارياً".
هو موقف تقليدي لدار الفتوى، وفي كل مرّة يُطرح فيها هذا الملف، تتخذ دار الفتوى الموقف المحرّم لذلك. أسوأ ما في موضوع "الزواج المدني" الاختياري، هو أنه غير مفهوم من قبل رافضيه، ولا يخضع لنقاش عقلاني جدّي، بين هؤلاء الرافضين لهذا الطرح. الزواج المدني مسألة مختلفة عن الأحوال الشخصية الممسوكة من قبل الطوائف ورجال الدين. لا بد من التفريق بين الأمرين. فمثلاً، كان المسيحيون سابقاً في ظل السلطنة يعتمدون نظاماً إسلامياً للأحوال الشخصية. إذ مثلاً لم يكن هناك في الديانة المسيحية تشريع واضح في الميراث، وكان بإمكانهم اتخاذ ما يريدونه بمسألة الإرث، فقد يوافقون على بعض الطروحات الإسلامية وقد لا يوافقون بعضها الآخر. وهذا يتبدى من خلال الاختلاف في التطبيق.
الصمت المسيحي
مسألة الزواج المدني مختلفة عن الأحوال الشخصية والإرث. وهذا ما يخلق مشكلة لدى المسيحيين. فعقد الزواج هو سرّ من أسرار الكنيسة. أما في الإسلام فليس هناك ما يلزم بعقد الزواج من قبل رجال الدين. ما من نص ديني إسلامي يقول بجوب عقد الزواج من قبل رجل الدين، أو الشيخ، لأنه في الأساس لا يوجد رجل دين بأصل الدين، بمعنى أن لا رتبة لرجل الدين، والزواج في الإسلام هو مجرد عقد يحتاج إلى التوافق والإجهار بين الطرفين، وقد يعقده شخص مسيحي، أو ملحد أو ملتزم بالإسلام، ولا يلزمه سوى شهود لاكتساب صفة الإشهار.
النقطة الأساسية تتعلق بمعنى الزواج، أو مضمون عقد الزواج. لذا، هي معضلة لدى المسيحيين، لأن "الزواج المدني" يتنافى مع الدين ومع السر المقدس الذي يتصف به طقس "الزواج". هو من أسرار الكنيسة، فالكاهن حكماً هو من يعقد هذا الزواج. اللافت هنا، هو الصمت المسيحي على السجال السائد الآن. مقابل خروج دار الفتوى ورجال الدين المسلمين، بكل قوة، رفضاً لهذا الطرح. رتبة رجل الدين في الإسلام غير موجودة، هي فكرة استجدّت تأثراً بالمسيحية، واستجابة لضرورات انتظام السلطة على المجتمع، زمنياً وروحياً. وهنا، لا بد من الإشارة إلى الفارق بين رجل الدين وعالم الدين في الإسلام، الذي ليس لديه أي رتبة أو وظيفة أو صلاحية.
المصلحة والمال
مشكلة إسلام السلطات والمحاكم الشرعية في رفض الزواج المدني، وتكفيره، يرتبط بنظام المصالح المتوفر من احتكار صلاحية الزواج والكثير من المعاملات. بمعنى استغلال الدين لتوطيد سلطة المؤسسة الدينية والإمساك عبرها بحياة الأفراد والمجتمع، والأهم هو ما تدرّ من أموال لصالح المؤسسات الدينية ورجال الدين. مثلاً، بإمكان أي قاض مدني غير ديني، أن يحكم بموجب الإقرار الفقهي الإسلامي، بمعنى سحب الصلاحيات من السلطات الدينية وإحالتها إلى المحاكم المدنية، وهذا لا يتنافى مع الدين. وعلى هذا الأساس، بالمقدور سحب السلطة من يد رجال الدين إلى المحاكم المدنية. وبالتالي، لا يكون المطلوب هو إلغاء التشريعات، بل فقط إحالة الصلاحيات والسلطات إلى العدل المدني، أو وزارة العدل بمعنى أوضح، مقابل أن يحكم القضاة المدنيون بموجب الفقه الديني. وهذا ما ترفضه المؤسسة الدينية بشكل قاطع، لرفضها التخلّي عن المكتسبات السلطوية المحققة لها وفق القواعد المعمول بها حالياً.
ما يتجنب رجال الدين المسلمين والمسيحيين الخوض فيه هو: ما صحة زواج ديني بالإكراه، على عكس قناعة ومعتقد وإرادة الراغبين بالارتباط، ألا يكون نفاقاً وكذباً؟ وما يتعمدونه هو فقط تضليل الرأي العام وحسب في تفسير كلمتي "مدني" و"اختياري".