إنها تسعينات القرن الماضي في بيروت من دون ألق التسعينات وطاقتها. التسعينات اليوم بما هي تسليم واقعي بالوصاية الإيرانية، نظيرة الوصاية السورية الأسدية سابقاً.
لا مؤتمر سلام الآن بحجم مؤتمر مدريد. لا فجر دولياً جديداً كمثل الفجر الذي أعلن بزوغه انهيار الاتحاد السوفياتي، وولادة وهم «نهاية التاريخ» بحسب عبارة فرنسيس فوكوياما التي عاد وأجرى حولها نقداً ذاتياً عميقاً. ولا فورة اقتصادية في العالم يحلم لبنان ركوب موجتها، ولا عولمة نشطة متوثبة تضج بالأفكار والوعود والآفاق. ولا استقرار إقليمياً، عربياً تحديداً، مرعياً بالوجود الأميركي المباشر في الخليج بعد حرب الكويت. لا شيء من كل هذا، ما جعل الركون إلى الوصاية ممكناً، وجعل الاعتقاد بأن في القبول الظرفي بالوصاية، تواطؤاً مبرراً على الوصاية نفسها.
إنها التسعينات دون كل ما سبق، سوى جلافة الوصاية الإيرانية على الحياة السياسية والوطنية في لبنان، التي تثبتت عبر انتخابات نيابية أعطت «حزب الله» أغلبية برلمانية، بعد نجاح الحزب في فرض مرشحه إلى رئاسة الجمهورية، ومن ثم الوصول إلى حكومة، ما ولدت إلا بتحقيق غالبية شروط «حزب الله» السياسية، والتحاصصية.
وليس أدل على اللحظة التسعينية هذه، من ملمحيْن، أعلنا عملياً إحالة السياسة إلى التقاعد، والاكتفاء بالإدارة الخدمية، كخلاصة وحيدة للعمل السياسي في لبنان. فرئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، أقر في مقابلة مع هذه الصحيفة، بأن «أحداً لا يريد المواجهة الآن»، من دون الاعتراف بانتصار إيران...
في حين تميز احتفال إحياء الذكرى الـ 14 لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري، بخطاب لنجله الرئيس سعد الحريري، خالٍ من السياسة، أو من عناوين الصراع السياسي، بل إن ما استعيد من تجربة الرئيس الشهيد في الوثائقيات المعدة للمناسبة، صب كله في خدمة التوجه الجديد للحريري وهو التركيز على الناحية الإعمارية، والإنمائية، والاقتصادية للحريري الأب، بلا أي صلة بالمشروع السياسي المولود من رحم الاغتيال.
ولعل فائض الاحتفال الذي شهدناه خلال الأيام الماضية باعتذار «حزب الله» عن تصريحات أحد نوابه بحق الرئيس بشير الجميل وفريقه السياسي كما بحق الرئيس ميشال عون، ما هو إلا بسبب الإدراك الحقيقي لحجم هيمنة الحزب على البلاد والعباد، ما جعل الاعتذار مفارقاً لسطوة الحزب وموقعه واقتداره. بدا الاعتذار كأنه انتصار هائل على «حزب الله» يتوق له لبنانيون كثر، وتواضع غير متوقع منه، وهو في الحقيقة لا يعدو كونه اعتذار الخاطف من رهائنه بسبب إهانة غير مبررة هنا أو فائض فظاظة هناك.
الحقيقة أن اعتذار «حزب الله»، لا يغير من قراءته لعلاقة جزء من اللبنانيين مع إسرائيل، لا سيما خلال فترة اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 وقبلها خلال فصول الحرب الأهلية، ولا يغير أيضاً في قناعته الراسخة أن بندقية «حزب الله» هي من أوصلت عون إلى رئاسة الجمهورية، وهذا صحيح، مهما بالغنا في حجم الدور الذي لعبته التنازلات السياسية المؤدية لانتخاب عون. فهذه التنازلات بالمحصلة تنازلات من أخذ علماً بأن سلاح «حزب الله» سيمنع انتخاب رئيس آخر، ما لم يتم التوافق على عون.
لكن «حزب الله» المدرك أنها التسعينات، بمعنى الإقرار الوطني العام بوصايته، ما كان يريد لرعونة أحد نوابه أن تسمى الأشياء بأسمائها بهذا الشكل، فاختار الاعتذار، وإعادة الأمور لتكون محكومة بخطاب الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله عشية تشكيل الحكومة.
في ذلك الخطاب، وبينما كانت الساحة الإعلامية تشهد أعنف اشتباك سياسي بين الحريري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، تدثر نصر الله بجلباب حافظ الأسد، وتوجه إلى «أشقائه» اللبنانيين، بأن تآلفوا وترفّعوا عن النكايات السياسية، وخففوا من غلواء الاشتباكات، وغير ذلك من قاموس الإدارة السورية للبنان وسياسييه وخلافاتهم. بدا فوق البلاد، وصياً كما ينبغي للأوصياء أن يكونوا، هادئاً، حكيماً، حريصاً، ممسكاً عند عتبة بابه بمفاتيح الحلول والتسويات وجوائز الترضية للمتخاصمين.
لكن السياسة متحركة، وهنا بيت القصيد. لا يلام، الآن، من أقروا بهيمنة «حزب الله» على لبنان. فهذا واقع سياسي يفرضه توازن القوى على الأرض، وتوازن اللحظة في الإقليم، وهي متغيرة أيضاً، ورجراجة إلى الحد الذي يبعث الأمل بأن لعبة الانتظار ليست بالضرورة لعبة خاطئة، إن أُحسنت إدارتها. والحقيقة أن الكل ينتظر.
إيران تنتظر أن يتغير الرئيس في أميركا، قبل انتهاء ولايته أو معها، وحلفاء أميركا ينتظرون أن يتغير نظام إيران أو سوريا أو معادلة إيران في سوريا، أو أن يتغير أي شيء... والكل يسعى بما أوتي أن يُنضِج التغيير المنتظر لصالحه.
المخيف، أن لبنان بين هؤلاء هو الأقل قدرة على تقرير مصيره، والتدخل في لعبة الإنضاج السارية. وطأة التسعينات ثقيلة بلا متنفسات الأمل يومها. بلا معارضة سياسية مسيحية ولا حركة طلابية حيوية وبلا صحف، كـ«النهار»، التي ظلت مصنعاً للعصب السيادي، فكان أن عوقبت بسمير قصير وجبران تويني، وبلا كنيسة مقاتلة ككرسي البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وبلا حجم رفيق الحريري الذي ظل خلية سيادية نائمة حتى حان وقت التحرير فمضى إلى شهادته.