لم يأتِ توصيف بري لهذا المؤتمر من فراغ، بل استند الى مجموعة اسباب:
اولاً، انّ هذا المؤتمر، وبرغم الضجيج الدولي الذي احيط به عنوانه، بدا أقرب إلى لقاء هامشي لا يرقى إلى حجم الدعاية التي رافقت الدعوة الاميركية اليه.
ثانياً، أُريد لهذا المؤتمر أن يشكّل منصّة لجبهة عالمية ضد إيران، فجاء مجرّد منبر خطابي لتحريض كلامي، لا يجد اليوم صدىً حتى لدى حلفاء أميركا، وعلى وجه الخصوص الاوروبيين، الذين يصرٌون على إبقاء شعرات التواصل السياسي مع ايران، الى جانب الاستمرار في التعاملات المالية معها، حتى ولو كان ذلك عبر قنوات خلفية في مواجهة العقوبات الأميركية.
ثالثاً، أُريد لهذا المؤتمر أيضاً أن يكون «مؤتمراً للسلام في الشرق الأوسط»، فجاء مجرّد حفلة علاقات عامة، انبرى فيها الأميركيون لتسويق «صفقة القرن»، او «صفقة العصر»، وتثبيت تطبيع عربي مع إسرائيل، من البوابة الخلفية للفندق الذي نزل فيه بنيامين نتنياهو.
رابعاً، الفتور الذي قوبل به من جانب الأوروبيين، الذين تدنّى حضورهم إلى ما دون المستوى الوزاري، وتأكيدهم على سلوك اتجاه معاكس الوجهة الأميركية.
خامساً، إبتعاد الصين ومقاطعة روسيا، التي اختارت سلوك مسار مضاد، باستضافتها الفصائل الفلسطينية. وعقد قمة ثلاثية روسية- تركية- إيرانية.
سادساً، عدم قدرة هذا المؤتمر حتى على صدور بيان مشترك في ختام أعماله. لم يحقق الأميركيون ما ارادوه.
سابعاً، الفشل المُسبق لهذا المؤتمر، الذي تأكّد سريعاً من جملة مؤشرات:
المؤشر الاول، عنوان المؤتمر لناحية خلق «السلام في الشرق الأوسط». ذلك أنّ لا ترجمة واقعية او فعلية لهذا العنوان، خصوصاً وانّ أسس التسوية، بنسختها الأميركية، توقفت بالنسبة إلى الفلسطينيين، والعرب المؤثرين في المعادلة السياسية، عند قرارات دونالد ترامب بشأن القدس.
المؤشر الثاني، المؤتمر، في جوهره ينطوي على محاولة تحقيق غاية ربما تكون الوحيدة المتوكلة منه، وهي تسويق أفكار جاريد كوشنر، صهر دونالد ترامب بشأن ما تسمّى بـ«صفقة القرن»، برغم انّها لا تبدو حتى الآن خياراً واقعياً، قابلاً للتوافق أو حتى التنفيذ، وبرغم الموافقة الضمنية لبعض العرب عليها.
علماً انّ المجريات الإقليمية والدولية المرتبطة بهذه الصفقة، تؤكّد، حتى الآن، أنّ ثمة صعوبة كبرى في تمريرها، حتى ولو ذهبت الدبلوماسية الخشنة للولايات المتحدة فيها حتى النهايات، ذلك انّ المواقف في شأن تلك الصفقة ما زالت تتفاوت بين رفضها التام من قبل روسيا، والسلطة الفلسطينية، وصولاً إلى مصر، وبين برودة الموقف الأوروبي حيالها. وبين عدم وجود راعٍ اقليمي او مسوٌق اقليمي لها.
فأمرٌ كهذا لا بد أن يحتاج الى مثل هذا الراعي والمسوق مثل تركيا، التي غابت عن «مؤتمر وارسو» على خلفية النفور مع ادارة ترامب، وكذلك لخلافاتها العميقة مع دول عربية.
المؤشر الثالث، تعاطي الصحافة الإسرائيلية التي اعتبرته محطة دعم لنتنياهو ومحاولة بناء جدار حماية له أمام ما يتعرّض له في الداخل الإسرائيلي من اتهامات برشاوى ومخالفات قانونية وقضائية.
المؤشر الرابع، مقاربة الإعلام الأميركي المشككة بالمؤتمر، حيث سلّط الضوء على أنّ السياسة الاميركية في الشرق الأوسط يشوبها الارباك وعدم الوضوح.
فمن جهة تريد واشنطن من خلال مؤتمر وارسو طمأنة حلفائها العرب امام التحولات التي ضربت مشهد المنطقة وانها باقية إلى جانبهم، وفي الوقت نفسه تُسمعهم كلاماً يحبطهم ويخيفهم، على نحو ما ورد اخيراً على لسان وزير الخارجية الأميركية بومبيو، بأنّ واشنطن لن تشن حرباً على إيران، ولن تدخل في معركة عسكرية معها. وسبق لهم أن أُحبطوا قبل انعقاد المؤتمر بقرار ترامب الانسحاب من سوريا.
بناءً على تلك الأسباب وغيرها ايضاً، أسّس بري توصيفه لمؤتمر وارسو بأنه «مؤتمر فالصو»، الذي لم يكن سوى حدث عابر، انتهى بمجرّد التقاط الصورة التذكارية الجامعة للعرب والإسرائيليين الى جانب بعضهم البعض تحت سقف واحد، وهي صورة تبدو محرجة للعرب، لكنها في المقابل ورقة ثمينة لبنيامين نتنياهو يمكن أن يتباهى بها، ويصورها على أنها اختراق كبير لجدار المقاطعة العربية، ما يعني انّ اللقاءات التطبيعية صارت علنية فوق الطاولة بدل أن تظل تحتها.
هي صورة، ليست مستفزة فقط في رأي بري، بقدر ما هي مغيظة من حجم ما يعانيه الموقف العربي من وهن الانحدار.