الإنطباع السائد حتى الأمس القريب، كان انّ «حزب الله» لا يملك ثقافة الاعتذار، وهذه الثقافة مهمة جداً، ليس فقط لأنّ الاعتراف بالخطأ فضيلة، بل كونها تنم عن استعداد للمراجعة السياسية والإعتراف بالآخر وتقبّله كما هو، وتعبّر عن نهج منفتح على الآخر ومتواضع، خلافاً للصورة النمطية التي قدّمها عن نفسه، وبالتالي مجرّد الإعتذار يستحق التوقف عنده.
وكل من تابع وقائع الاشتباك في مجلس النواب تفاجأ كون النائب سامي الجميل لم يقل ما يستدعي ردة فعل الموسوي، الذي بدا وكأنه يفتعل المواجهة عمداً.
فيما تراوح الانطباع بين ان يكون موقف الموسوي ينمّ عن رأي شخصي، خصوصاً وانّ أحداً من نواب الحزب لم يتدخّل مؤيّداً لوجهة نظره، بل وقع المفاجأة كان بادياً أيضاً على نواب الحزب، وبين أن يكون معبّراً عن توجهات جديدة ترمي إلى تسخين الوضع السياسي لاعتبارات خارجية.
وهناك من وضع موقف الموسوي في سياق الرسالة الموجّهة إلى الرئيس ميشال عون، ولو بمفعول رجعي، متعلق بالرئيس بشير الجميل، وذلك بتذكيره بدور «حزب الله» في انتخابه على خلفية انزعاجه من رفض عون المساعدات الإيرانية وتقاطعه مع موقف الرئيس سعد الحريري، ومن دون أي محاولة ربط نزاع، في مسألة يُدرك رئيس الجمهورية حجم حرص الحزب عليها، وهي عدم ردّ طهران خائبة وخالية الوفاض من زيارتها اللبنانية، خصوصاً انّها بأمسّ الحاجة الى التعاون الرسمي مع لبنان، في رسالة إلى واشنطن انّ محاصرتها غير ممكنة، فيما الموقف اللبناني دلّ الى انّ بيروت تنفّذ رغبات واشنطن، بينما أولوية لبنان الفعلية تجنّب أي عقوبات والالتزام بالشرعية الدولية.
وبمعزل عن الأسباب أو الدوافع وراء كلام الموسوي، فلا مصلحة لـ«حزب الله» في ان يضع نفسه في مواجهة مع المسيحيين، الذين توحّدوا ضد المسّ برمزية الشهيد بشير الجميل. ما يعني أنّ أي إساءة لبشير هي إساءة لجميع المسيحيين.
كذلك لا مصلحة للحزب في الإساءة الى عون وصورته المحلية والخارجية، من خلال تصوير انتخابه وكأنه حصيلة عملية عسكرية انقلابية لا سياسية، أو بفعل وهج السلاح، فيما الحقيقة هي خلاف ذلك تماماً، لأنّ «حزب الله» لم ينجح منفرداً بانتخاب عون، هذا الانتخاب الذي لم يتحقق إلا نتيجة التفاهمات الوطنية التي نسجها عون مع «القوات اللبنانية» وتيار «المستقبل» والحزب «التقدمي الإشتراكي» وتسهيل الرئيس نبيه بري عملية انتخابه.
وقد ظهرت مجدداً أهمية وحدة الموقف المسيحي، حيث تضامن حليف «حزب الله» وخصمه على موقف واحد وهو رفض نبش القبور والمس بالرموز والعودة إلى منطق التخوين، والحرص على التمييز بين الخلاف السياسي بمعزل عمّا إذا كان من طبيعة استراتيجية أم تكتية، وبين احترام كل طرف لمشاعر الطرف الآخر ورموزه وتاريخه.
وبالتالي وحدة الموقف هي التي فرضت على «حزب الله» التراجع عن موقفه المسيء إلى الجميل وعون في آن معاً، ودلّت الى أهمية ومحورية تقاطع المسيحيين على القضايا المتصلة بدورهم وحضورهم وتاريخهم ورموزهم.
ومن هذا المنطلق، شكّل موقف «حزب الله» تطوراً مهما على ثلاثة مستويات:
ـ المستوى الأول، التخلّي عن منطق الغلبة والتخوين، لأنّ مجرد رفض المساس بمشاعر الآخرين يعني قبولهم كما هم من دون السعي إلى إلزامهم بسياسة او ثقافة معينة.
ـ المستوى الثاني، الإقرار بتعددية المجتمع اللبناني التي تنطلق من مبدأ عدم التجانس وضرورة احترام كل جماعة لمعتقدات الجماعة الأخرى ورموزها ومفاهيمها، من دون اي محاولة لفرض شروط جماعة على أخرى، والدفع في اتجاه التعايش تحت سقف الدولة.
ـ المستوى الثالث، عدم رغبة «حزب الله» بالعودة إلى الصفر في علاقته مع القوى المسيحية الحليفة والخصمة في آن معاً، خصوصاً انّه حصلت تقاطعات مختلفة في السنتين المنصرمتين تحت سقف المؤسسات، دلت الى أنّ التقاطع على رغم من الخلاف الاستراتيجي ممكن، وسمحت بوضع حد للشيطنة التي ترفض الآخر ولا تتقبّل التعاون معه.
ولا يجب استسهال انعكاسات الموقف الذي أطلقه رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» على بيئة «حزب الله» المؤدلجة على اساس مفاهيم معينة ونظرة سياسية محددة، الأمر الذي سيضطرها إلى إعادة النظر ببعض هذه المفاهيم، او بتجنب إثارتها تلافياً للاستفزاز بالحد الأدنى، ولكن الجسم الحديدي للحزب قادر بطبيعة الحال على فرض إيقاعه، خصوصاً انّ مصلحة الحزب تستدعي ذلك، ولا مصلحة في استحضار ملفات خلافية تعود الى ما قبل ولادة «حزب الله».
وأي مراجعة لسلوك «حزب الله» منذ التسوية الرئاسية إلى اليوم تُظهر الآتي: حرصه على التبريد وتجنّب المواجهات السياسية، محاولة تحسين حضوره تحت سقف التسوية، تراجع دوره الإقليمي، زيادة منسوب اهتمامه بالملفات الداخلية، الانخراط في لعبة التوازنات والتعيينات والخدمات، والأهم نقل أولوية التركيز من المقاومة إلى مكافحة الفساد.
وما تقدّم لا يعني انّ «حزب الله» بدّل في اقتناعاته وأولوياته، ولكن يعني انّ هناك تحوّلاً بطيئاً في سلوكه، والحزب الذي يُقدم على الاعتذار حرصاً على مشاعر جماعة أخرى، يمكن ان يُقدم في اي وقت على خطوات أخرى.
وما وصل إليه الحزب اليوم غير مسبوق منذ العام 2005 ويستحق المتابعة، ودليل الى براغماتية عالية. ولكن لا يجب التقليل في المقابل من حجم الخلاف الاستراتيجي معه، ولا من ضرورة التقاطع حيث يجب التقاطع، والمواجهة حيث يجب المواجهة حفاظاً على التوازن والاستقرار.
وفي المحصلة، هناك اعتبارات عدة أملت على «حزب الله» اعتذاره: رغبته في مواصلة التبريد وفك الاشتباك السياسي، حرصه على عدم استفزاز رئيس الجمهورية وإحراجه، تجنّبه تحويل المواجهة بين الحزب والمسيحيين، رفض جرّه الى مواجهة لا يريدها وبعنوان لا يريده، ظهوره بمظهر المنفتح على الآخر والمستعد للمراجعة السياسية، توجيهه رسالة الى المسيحيين مفادها انه حريص على تجنّب الصِدام معهم...