ألقى العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك، في حضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
"عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الإمام علي واليه مالك الأشتر عندما ولاه ملك مصر، فقال: "وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة (عظمة) أو مخيلة (عجب وخيلاء)، فانظر إلى عظم ملك الله فوقك، وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك (يخفض من جماحك)، ويكف عنك من غربك (يرجع إليك ما غاب من عقلك)، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك.. إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال.. أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إلا تفعل تظلم.. ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته (أبطل حجته) وكان لله حربا حتى ينزع (يقلع عن ظلمه) أو يتوب، وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد". لقد رسم الإمام علي من خلال هذه التوجيهات صورة الحاكم في الإسلام، فالحاكم هو من لا يتحيز، ولا يتكبر، ولا يطغى، ويعطي الله ما يجب عليه له، ولا يغمط الناس حقوقهم، ويأخذ قوة الله وعظمته دائما في الاعتبار".
اضاف: "إننا أحوج ما نكون إلى هذا الحاكم والمسؤول الذي يشعر برقابة الله عليه وبحضوره الدائم معه في حياته، فلا يرى نفسه حرا يتصرف في موقفه كما يشاء، فيظلم ويتحيز ويطغى ويتكبر.. وبذلك نغير واقعنا، ونصبح أكثر قدرة على مواجهة التحديات".
وتابع: "البداية من لبنان، الذي توشك حكومته أن تنال الثقة بأرقام عالية، على الرغم من عصف الانتقادات التي أطلقها النواب من على الشاشات، وكان العديد منها موضوعيا يستند إلى الوقائع، وموثقا بالأرقام، وكشف بوضوح مدى استشراء الفساد والهدر والتوظيف الانتخابي والمحاصصة والتلاعب بالمال العام، وهو ما يفترض من الحكومة عدم التهرب من مواجهتها، بل التحضير لمعالجتها، من خلال خطة عملية تخفف المعاناة التي يعيشها اللبنانيون".
وقال: "إننا، ورغم كل ما سمعنا ورأينا، لن نتسرع في الحكم على أداء الحكومة الجديدة، فنراها تكرارا لما كانت عليه الحكومات السابقة، علما أننا نعي أن القوى السياسية التي تمثل في هذه الحكومة هي نفسها التي كانت في الحكومات السابقة التي تثار حولها كل هذه الملفات. وقد لمسنا في كل ما قيل ويقال عن أن هناك توجها لدى الجميع يتركز على إنقاذ لبنان من التدهور الاقتصادي، وإخراجه من متاهة الأزمة الاجتماعية الخانقة، وإننا نأمل أن يكون ذلك أسلوبا جديدا في أداء الدولة، وليس آنيا فرضته الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان، ليتحول هذه المرة إلى موقف جدي وإلى تضامن فعلي حقيقي داخل الحكومة وخارجها".
واضاف: "من هنا، وفي إطار السجالات والمماحكات التي سمعها اللبنانيون ورأوها، وظهرت آثارها على الأرض، فإننا نرى أن على كل الأطراف أن يبتعدوا عن سجالات لا تغني ولا تسمن من جوع، بل تفتح جروح الماضي من دون جدوى. ولا يعني هذا أننا ضد النقد، فنحن مع كل نقد بناء، شريطة أن يبقى تحت سقف التوجه الإصلاحي، وبعيدا عن إثارة الحساسيات الداخلية، وألا يفسح في المجال أمام المتورطين بالفساد للإفلات من العقاب تحت وطأة هذه السجالات".
وقال فضل الله: "إننا نرى أن الحكومة أمام امتحان فعلي في الأشهر المقبلة، وأن عليها الاستثمار في كل شيء؛ في الرغبة الشعبية في الخلاص من هذا الوضع المأزوم، وفي عودة الالتفاف العربي والإسلامي حول لبنان، ولا سيما بعد إعلان بعض الدول العربية رفع الحظر عن سفر رعاياها إلى لبنان، وفي التنافس الإقليمي الراهن لتحقيق المزيد من المكتسبات لمصلحة البلد..".
وأعلن "أننا مع كل الناس، سنتريث في إعطاء الثقة للحكومة إلى حين رؤية الأفعال بعد سماع الأقوال، وبعد أن نشعر أنها أحدثت فارقا نوعيا في ملاحقة الفاسدين، وفي إيقاف مزاريب الهدر من المال العام، وفي تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وفي جعل البلد قادرا على مواجهة التحديات التي تنتظر في الداخل والخارج".
واشار الى مؤتمر "وارسو"، "حيث حطت رحال بعض العرب، إلى جانب مسؤولي الكيان الصهيوني، في مؤتمر بات واضحا أن الإدارة الأميركية أرادت منه فتح الأبواب أكثر على التطبيع بين العرب وهذا الكيان، وعلى حساب الشعب الفلسطيني، لحساب ما يسمى "صفقة القرن"، لتكون المواجهة مع إيران.
إننا نرى أن هذا المؤتمر الذي حمل عنوان "السلام في الشرق الأوسط"، لن يؤدي إلا إلى رفع منسوب التوتر في المنطقة، فلا سلام في ظل القهر والاستبداد الذي يمارس على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة.. ونحن نتساءل عن أي سلام يتحدثون في ظل تعويم الكيان الصهيوني وتعزيز حضوره، وهو المسؤول الأول عن معاناة المنطقة وشعوبها، ولأجله تحدث كل الفتن والحروب.. ومن المؤسف أن نرى، ومع بداية هذا المؤتمر، تقديم الخدمات المجانية للعدو بالإسراع في التطبيع معه والتواصل المباشر بين بعض المسؤولين العرب ورئيس وزراء العدو".
واعتبر انه "قد لا يكون من قبيل المصادفة أن يتزامن هذا المؤتمر مع الاعتداء الذي استهدف إيران في عملية التفجير التي وقعت في زاهدان، والتي يعتقد الكثيرون أنها تشكل ضغطا أمنيا يستكمل الحصار السياسي والاقتصادي والإعلامي الظالم، والذي يجري بعيدا عن القرارات الدولية والمواثيق الإنسانية".
وقال: "وبالانتقال إلى مؤتمر سوتشي، فإننا نتمنى أن ينجح في تذليل العقبات، وأن يفتح الطريق أمام الحل في سوريا، وأن يغلب منطق الحوار السياسي في نهاية المطاف، ليخرج البلد من دائرة الفتنة والحرب، ويبدأ عملية الإعمار الشاملة، ويستعيد دوره على مختلف المستويات".
وختم: "أخيرا، ونحن نستعيد في هذه الأيام ذكرى القادة الشهداء في المقاومة الإسلامية، الذين بذلوا أرواحهم في سبيل عزة هذا الوطن وحريته وكرامته واستقلاله.. فإننا ندعو إلى أن يبقى هؤلاء في ذاكرة كل اللبنانيين، وأن لا ينسوهم تحت أي ضغط طائفي أو مذهبي أو سياسي، ولا ينسوا تضحياتهم لأجل هذا الوطن".