لم يعد التنافس الإقليمي، على لبنان وفيه، مقتصراً على إيران والمملكة العربية السعودية. الأسابيع الأخيرة، حملت مؤشرات عديدة، حول استعداد قوى دولية للدخول إلى المجال اللبناني. من حيث الوقائع، فإن الحضور الأميركي والسعودي غائب عن لبنان، بشكل فعّال، منذ سنوات، وتحديداً منذ الإجراءات الخليجية بحق لبنان، في حقبة حكومة الرئيس تمام سلام. الحضور الأميركي يقتصر على استمرار تقديم الدعم العسكري للجيش اللبناني، والعناية بالقطاع المصرفي والعقوبات، بالإضافة إلى الحضور العسكري في بعض المناطق. أما الحضور السعودي، فهو أيضاً يستمرّ من خلال بعض الاهتمامات والمبادرات، لكن كلها تبدو مختلفة عن ما كان الوضع عليه قبل سنوات.
الدور الفرنسي والخطة الصينية
هذا التراجع السياسي، أو غياب خطّة سياسية واضحة، هي التي دفعت إلى تغيير قواعد الاشتباك في لبنان، ودفعت بالأفرقاء المحليين إلى الدخول في تسويات معينة، ضاع فيها البعض، بينما لاقى نفسه البعض الآخر. فرنسا، سعت إلى الحضور بقوة في المشهد اللبناني، منذ "استقالة" الرئيس سعد الحريري من الرياض، والدور الذي لعبه الرئيس إيمانويل ماكرون في إعادة الأمور إلى نصابها، وبعدها جاء تنظيم مؤتمر سيدر، الذي تريد له فرنسا أن يكون مقدّمة أوروبية، للتنافس على مناطق النفوذ في المنطقة، انطلاقاً من الساحة اللبنانية، وتمسك الفرنسيين بمؤتمر سيدر، ليس إلا تمسكاً بالدور الذي تطمح باريس إلى لعبه، والفراغ الذي تريد أن تسدّه.
عمليات التنقيب عن النفط، انقسمت بين الأوروبيين (الفرنسيين والإيطاليين) وروسيا. وقبل أيام دخل الروس أكثر من خلال مصفاة طرابلس، وهذا الدخول مستمدّ من إمساك موسكو بمفاصل الوضع السوري. وتاريخياً، من يتمتع بسيطرة على سوريا، يسيطر حكماً على لبنان. التفاهم قائم بين الأميركيين والروس في سوريا، وهو سيكون قائماً في لبنان. وربما هذا الاتجاه الأميركي، الذي كان قد بدأ منذ سنوات، هو الذي دفع السعوديين إلى عدم إبداء الحماسة للإستمرار في التأثير بالوضع اللبناني، والتفرّغ لأولويات أخرى. بعيد الدخول الروسي بقوة، وفي ظل الاختلافات الروسية الإيرانية في سوريا، وجدت طهران نفسها مضطرة للإقدام على مبادرة لبنانية، تجلّت في ما تقدّم به وزير الخارجية محمد جواد ظريف. وفي خلفية المشهد وخفاياه، ثمة خطة اقتصادية صينية شاملة للبنان تطال كل المرافق فيه، لكن حضورها لا يزال غير ظاهر.
مشهد فينيسيا
في النظر إلى المشهديتين المختلفتين في لبنان، بين زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، والموفد الملكي السعودي نزار العلولا. يتمظهر التوازن شكلياً بين القوتين الإقليميتين على الساحة اللبنانية. آخر زيارة للعلولا، إلى لبنان قبل الزيارة الحالية، كانت بعيد فترة قصيرة من آخر زيارة لظريف. هذا بمعزل عن الزيارة التي أجراها العلولا لمناسبة افتتاح جادة الملك سلمان. وكأن الستاتيكو المرسوم، يراد له أن يبقى في إطاره التفصيلي، بلا أي تغيير. بحيث تبقى الوقائع على أحوالها، على الرغم من الإدعاءات الكبرى.
يمكن تشخيص الواقع السياسي اللبناني، بتصنيفه إلى صنفين، الشق المحلي الداخلي، والذي يرتكز على التوازن القائم بين الرئيس سعد الحريري ورئيس الجمهورية والوزير جبران باسيل، بوجه كل القوى الأخرى. أما الشق الخارجي، فالتوازن يبقى استراتيجياً من خلال وجود الحريري في السلطة والذي يلتقي مع القوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي إلى جانب المملكة العربية السعودية، مقابل حزب الله وحلفائه إلى جانب إيران. تلك الصورة تكرّست في العشاء الذي دعت إليه السفارة السعودية في فندق فينسيا، على الرغم من وجود شخصيات من خارج تحالف 14 آذار، كالوزير علي حسن خليل ونواب التيار الوطني الحرّ.
صون التوازن
الصورة الأساسية، تركّزت على جمع الحريري، جنبلاط، وجعجع، وإلى جانبهم الرئيس فؤاد السنيورة، الرئيس ميشال سليمان، ونواب سابقين من صقور 14 آذار. المشهد نفسه تكرر، في آخر زيارة للعلولا في نيسان الفائت، ما قبل الانتخابات النيابية، وقد عقدت خلوة يومها جمعته مع الحريري، وجعجع، وجنبلاط. جرى خلالها التشديد على وجوب خوض الانتخابات النيابية معاً لأجل الحفاظ على التوازن. نجح المسعى السعودي يومها، برأب الصدع جزئياً، بين هؤلاء "الحلفاء". كما نجح في لجم الحريري عن الذهاب بعيداً باتجاه التيار الوطني الحرّ. لكن الأساس لم يتغيّر في الحسابات المختلفة لهذه القوى، وقد عاد الحريري إلى الالتحام بالتيار الوطني الحرّ في عملية تشكيل الحكومة، لكنه عندما كان يقع في الحرج، أو تحت الضغط، كان يلجأ إلى جعجع وجنبلاط، وإلى لعبة الصلاحيات لحماية نفسه ودوره. أما في الوقت الذي تيقّن فيه من أن ولادة الحكومة أصبحت حتمية، عاد وابتعد في الحسابات عن جنبلاط وجعجع، وتقرّب أكثر من باسيل. إذ وضع الرجلين تحت الأمر الواقع، وأجبرهما على السير بالتشكيلة التي يريدها.
زيارة ظريف، كما زيارة العلولا، تندرجان في الإطار الحضور الشكلي، وفيما حمل ظريف مشاريع ومقترحات، جرى رفضها لبنانياً، أيضاً حمل العلولا مقترحات لمشاريع ولزيادة أفق التعاون والدعم. لكنها ليست المرة الأولى التي تكون فيها هذه الوعود موجودة، وحتى الآن ليس هناك ما يوحي، بأنها ستكون مرفقة بخطّ عملية، أو سياسية، ترفدها وتغير من الواقع القائم. يمكن اختصار هذه الزيارات بأنها دليل على الحضور في البلد، لتجنّب الغياب. من دون خطّة واضحة. السعودية تعتبر نفسها حاضرة بقوة، وهي تأتي إلى لبنان حاملة وعود ومشاريع، ولا عقوبات مفروضة عليها. بينما إيران تقترح المشاريع وهي ترزح تحت العقوبات. وتستند السعودية إلى دورها اللبناني على حلفائها الدوليين والإقليميين، وهي على تفاهم مع الأميركيين ومع الروس حيال الوضع في في لبنان وسوريا. بينما وضع إيران يختلف، وهي بحاجة إلى الإستمرار في بذل الجهد، للدفاع عن مواقعها ونفوذها.
الغموض السعودي
بعض اللبنانيين، الراغبين بعودة الدور السعودي بقوة إلى لبنان، يستندون ببيت شعر للمتنبي يقول فيه: "لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مال.. فَليُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسعِدِ الحالُ". وكأن هؤلاء الراغبين بعودة الدعم السعودي إلى لبنان، قد يكتفون فقط، بالحديث الجدي عنه من قبل المسؤولين السعودي، وعدم اقتصاره على الكلام الديبلوماسي. أو على الأقل إن لم يكن الحديث عن توفير الدعم، فليكن حول الرؤية السياسية للمرحلة المقبلة، وقول كلمة فصل في السياسة، لمعرفة وجهة الأمور، كي لا يبقى هؤلاء على قلق الريح التي تحتهم.
لم يلتقط المسؤولون اللبنانيون إشارات واضحة، حول وجود برنامج عمل سعودي جديد معدّ للبنان. بل إن الوضع باق على ما هو عليه. لكن الأكيد أن السعودية ستبقى حاضرة، ولا يمكن لأي طرف أن يفكّر بالشروع في خطّة سياسية، قبل تبلور صورة المنطقة، التي تحتاج إلى أشهر قليلة لتتضح. وعندها يبنى على الشيء مقتضاه.
بلا شك أن ثمة أزمتين يعانيهما لبنان، أو بعض الأفرقاء فيه، مع المملكة العربية السعودية. أولهما فقدان الدعم المالي، وثانيهما عدم التماس اللبنانيين لخطّة سعودية واضحة للمرحلة المقبلة، تبقي على التوازن.