لا يتصرف حزب الله بوصفه منتصرا على رغم أنه منتصر في لبنان! ثمة ضيق ما يعصر قلب هذا الحزب. ما جرى في جلسة مجلس النواب الأخيرة يكشف عن ذلك. النائب نواف الموسوي في مخاطبته زملائه من النواب يمثل هذا الضيق على نحو أشد مما يمثله غيره من نواب الحزب.
الحاجة العميقة للتعالي على اللبنانيين ولإشعارهم بأن وجدان الحزب لا يتسع لمسارات حياتهم ولذاكرتهم ولأشكال تصريف عيشهم، تبدو في خطاب الموسوي أشد من حاجة الحزب لإشهار "انتصاراته". فما أقدم عليه الموسوي في يوم المشادة حول بشير الجميل لا يمكن تفسيره إلا بوصفه استحضارا لقضية من مخزون الضغينة الأهلية ورميها في وجه اللبنانيين، وبالتالي إشغال الناس بقضية مضى عليها نحو أربعين عاما.
سياسيا، الحزب نفسه تجاوز الخلاف اللبناني حول بشير الجميل، فهو كان تحالف مع قوى كانت في ذلك الوقت قريبة من بشير الجميل، ثم أن الحزب أوصل العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وهو ما قاله الموسوي نفسه، وعون كان من الدائرة القريبة من بشير، ومناصرو الحزب إذ أشهروا في يوم المواجهة الأهلية، أي يوم أمس، صور بشير إلى جانب ضباط إسرائيليين، فلحليفهم الرئيس صور موازية مع ضباط إسرائيليين اختفت في ذلك اليوم. والحزب لم يكشف عن حساسية تذكر حيال وجوده مع إيلي حبيقة في حلف واحد، علما أن الأخير كان جزءا من المرحلة الإسرائيلية، وارتبط اسمه بمجزرة صبرا وشاتيلا.
اللحظة السياسية تطيح بما يدعي الحزب أنها قيمه. جرى اختبار ذلك في أكثر من مناسبة. أما ما أقدم عليه الموسوي يوم أمس فيجب البحث في أسبابه غير السياسية. فالرجل أشعل حرب مشاعر أهلية على نحو مجاني، ومن دون مناسبة، ولهذه الحرب أكلاف سياسية لا تناسب حلفاءه المسيحيين.
ومن جهة أخرى يشعر المرء أن حزب الله "المنتصر" في لبنان وفي سوريا ليس بحاجة لاستحضار لحظة انقسام قديمة لا قيمة سياسية لها في لحظة صعوده هذه. والقوى التي استهدفتها مقولة الموسوي هي اليوم في مواقع مختلفة عن تلك التي كانت فيها عند انتخاب بشير رئيسا أو قبلها.
العبارة خرجت في سياق آخر غير سياسي على الإطلاق، هي شعور الحزب الذي يتكثف في وجدان الموسوي في عجزه عن ترجمة انتصاراته قيما. هنا تماما يكمن شعور الحزب بالاختناق. وهنا تماما تكمن حاجة الموسوي لإشهار تعاليه على اللبنانيين وعلى أنماط عيشهم وعلى خياراتهم العادية واليومية.
انتصر حزب الله في لبنان وفي سوريا، ثم ماذا؟ حين انتصرت ولاية الفقيه في إيران أقامت نظامها هناك. حجبت النساء، ومنعت ربطات العنق للرجال، وأقامت الحد على "الزانيات"، وقتلت الشيوعيين، وأطلقت الباسيج في الشوارع. في لبنان يشعر الحزب أن ليس لتصدره قيمة غير قيم السلطة العارية من أي مضمون غير عنفي.
يمرّ حزب الله بلحظة سياسية غير مسبوقة في لبنان. الحكومة الجديدة تكاد تكون حكومته، وله في المجلس النيابي غالبية راجحة، ولا يبدو أن أحدا يمكنه أن يصدّ له رغبة أو طموحا! وعلى رغم ذلك يشعر نائبه بالحاجة لأن يستحضر ما استحضره بالأمس! ثمة خلل في هذه المعادلة، يجب البحث عنه في منطقة أخرى في وعي الموسوي أو في لاوعيه.
الأرجح أن حزب الله لم ينتصر على رغم كل "الإنجازات" التي حققها. الحزب لم يتمكن من تحويل "انتصاراته" أنماط عيش وممارسة يومية حتى في أكثر المناطق التي يملك فيها نفوذا. هو حزب ولاية الفقيه، وهذا ما لا ينفيه هو نفسه، ولولاية الفقيه خيارات ورغبات في فرض أنماط عيش وممارسة، لا يقوى الحزب على ممارستها.
وجه الموسوي في يوم الفتنة الأهلية في مجلس النواب، كشف عن هذا العجز وعن هذا الاختناق. فهو أشهر ملامح تنم عن احتقار لذاكرة اللبنانيين ولتوافقاتهم الضمنية على صياغة تواطؤ يستبعد تلك الحقبات الخلافية. والحزب إذ يشعر أنه لا ينتمي إلى الحاضر المُعاش، يشعر في الوقت نفسه أنه ممسك بهذا الحاضر. وهنا تكمن ذروة العجز، وهنا يصل الاختناق إلى حد الشعور بلا جدوى "الإنجاز".
يوم أمس وقف الموسوي في المجلس النيابي الذي فاز حزبه وحلفاء الحزب بغالبية مقاعده. كانت المهمة إعطاء حكومة الحزب الثقة. في المجلس رئيس للحكومة لا يحبه الحزب، ونائبات غير محجبات، وصلت إحداهن إلى الجلسة على دراجتها النارية، وباستثناء نواب الحزب لبس الجميع ربطات عنق لا يحبذ ارتداءها الولي الفقيه. هذا المشهد، وعلى رغم ركاكته وسذاجته وضعف قيمته السياسية، كاشف عن عجز الحزب عن إهداء "انتصاراته" اللبنانية لولي فقيهه.