يصعب على اللبناني، المنتمي فعلاً الى فكرة اسمها لبنان، القبول بأنّ جريمة اغتيال رفيق الحريري في مثل هذه الايّام، قبل 14 عاماً، ادّت الغرض المطلوب منها، اقلّه في المدى المنظور. قضت الجريمة على المحاولة الجدّية الوحيدة التي بذلت منذ العام 1975 من اجل إعادة الحياة الى المشروع الوطني الوحيد القابل للحياة، مشروع رفيق الحريري الذي انطلق من قلب بيروت.
محزن المشهد اللبناني الذي حلّت فيه الوصاية الايرانية، بالصوت والصورة والفعل والسلاح غير الشرعي، مكان الوصاية السورية بكلّ ما كانت تعنيه من تخلّف ووحشية على شتى الصعد. محزن ان يأتي شخص مثل محمّد جواد ظريف وزير الخارجية الايراني الى بيروت في هذه الايّام بالذات من اجل اعلان انتصار طهران على لبنان واللبنانيين وعلى رفيق الحريري نفسه لا اكثر.
أتى ظريف الى بيروت ليعرض خدمات معيّنة ذات اهداف اكثر من واضحة. لا علاقة لهذه الأهداف بأي مصلحة لبنانية، لا من قريب ولا من بعيد. على العكس من ذلك، لهذه الخدمات المعروضة علاقة بالمخرج الذي تبحث عنه ايران من ازمة عميقة. لا يفيد في العثور على المخرج الكلام الحماسي الذي يصدر عن هذا المسؤول الايراني او ذاك وعن الرئيس حسن روحاني بالذات، كلام من نوع ان «الجمهورية الإسلامية» ستهزم العقوبات الاميركية.
جاء ظريف الى بيروت لأهداف مرتبطة في حاجة إيران الى أن تظهر بطريقة أو بأخرى أنّ جريمة اغتيال الحريري، والجرائم الأخرى التي تلتها، أعطت ثمارها وان وزير الخارجية فيها صار قادرا على ان يسرح ويمرح في بيروت، أي في ملعبه، من دون حسيب او رقيب. تعتبر ايران بكلّ بساطة ان العمل الدؤوب الذي تقوم به في لبنان منذ ما قبل العام 1982 والذي جاء اغتيال الحريري في سياقه، استنادا الى البيان الاتهامي للمحكمة الدولية في لاهاي، أوصل لبنان الى ما وصل إليه.
ما وصل إليه لبنان بات يسمح لأي مسؤول إيراني بالقول بصوت عال ان طهران تتحكم بأربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. الحقيقة ان لهذا الكلام بعض الأساس، لولا انّ بغداد تتمرّد يوميا على طهران وترفض نير الاستعمار الايراني، فيما بيروت لا تزال تقاوم...
يعرض وزير الخارجية الايراني على لبنان أسلحة او صواريخ فيما الطفل يعرف ان لا قيمة للأسلحة الايرانية في التصدي لإسرائيل. الدليل على ذلك في غاية الوضوح. يكفي المشهد السوري للتأكد من ان العرض الايراني لا قيمة له على ارض الواقع.
لم تنقص رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، الذي يعرف جيّدا من قتل والده، الشجاعة ليقول صراحة للوزير الايراني «ان الحكومة تنطلق في برنامجها للنهوض من مصلحة الشعب اللبناني والمصالح العليا للبنان» لافتا نظره الى «احترام لبنان لتعهداته والتزاماته تجاه المجتمعين العربي والدولي».
لا يزال سعد الحريري الحصن اللبناني الأخير في الدفاع عن لبنان واللبنانيين ومصالحهم في وجه الهجمة التي انطلقت من طهران والتي لا تقيم وزنا للبلد بل تعتبره مجرّد مشروع مستعمرة تدور في الفلك الايراني.
في ذكرى غياب رفيق الحريري، من المفيد، رغم كل المصاعب التي يمرّ فيها لبنان، التذكير بأمر أساسي. لا يزال في لبنان من يقاوم المشروع الايراني الذي أخذ أبعادا جديدة بعد 14 فبراير 2005 يوم تفجير موكب رفيق الحريري. لم يعد سرّا من خطط للجريمة ومن نفّذها. لم يعد سرّا ان سلسلة اغتيالات حصلت بعد ذلك، آخرها اغتيال محمد شطح لتغطية الجريمة الاصلية واغتيال لبنان كلّه. لم تكن حرب صيف 2006 مع إسرائيل سوى حرب على لبنان. تواطأ طرفا هذه الحرب على لبنان. كان رفيق الحريري، بكل ما يرمز اليه مشروعه، هدفا لتلك الحرب التي دمّرت جزءا من البنية التحتية اللبنانية وهجرت مزيدا من الشباب اللبناني.
ظل لبنان هدفا إيرانيا. هناك بلد مطلوب ترويضه واختراقه. فعندما ذهب سعد الحريري الى طهران في خريف العام 2010 كرئيس لمجلس الوزراء، طلب الايرانيون ثلاثة أمور هي الآتية: اعفاء الايرانيين، اسوة بمواطني الدول العربية، من تأشيرة لدخول لبنان، وتوقيع معاهدة دفاع بين لبنان وايران، على غرار معاهدة الدفاع الايرانية - السورية، والسماح لإيران بدخول النظام المصرفي اللبناني. دفع سعد الحريري ثمن رفضه المطالب الثلاثة. اسقط «الثلث المعطل» حكومته تمهيدا لفرض نجيب ميقاتي رئيسا للوزراء بواسطة «القمصان السود»، أي عناصر «حزب الله» التي نزلت الى الشارع البيروتي. لا حاجة الى سرد الوقائع مجددا وتحديد الجهة المسيحية التي تولّت رعاية عملية اسقاط حكومة سعد الحريري في تلك الايّام.
ما تطلبه ايران حاليا من لبنان اقرب الى طلب المستحيل. يستطيع لبنان اعفاء المواطنين الايرانيين من التأشيرة. هذا ما فعلته حكومة نجيب ميقاتي في حينه. لكنّ لبنان لا يستطيع توقيع معاهدة دفاعية مع ايران او الحصول على أسلحة إيرانية مع ما يعنيه ذلك من وجود خبراء إيرانيين يدربون عناصر من الجيش اللبناني على استخدام تلك الاسلحة. فوق ذلك كلّه، بل الاهمّ من ذلك كلّه، لا يستطيع لبنان فتح نظامه المصرفي امام ايران. على العكس من ذلك، لا خيار آخر امام المصارف اللبنانية والسلطات المختصة غير التزام العقوبات الاميركية على ايران. هذا في حال كان لبنان يريد المحافظة على ما بقي من اقتصاده.
يتبيّن كلّ يوم اكثر لماذا كان مطلوبا التخلّص من رفيق الحريري بصفة كونه عقبة امام المشروع التوسّعي الايراني اوّلا. كان عقبة لبنانية وعربية في الوقت ذاته. فبعد 14 عاما على غيابه، يبدو واضحاً ان إيران حققت تقدما في لبنان. كان الدليل فرض «حزب الله» خياره رئيسا للجمهورية وقيام المجلس النيابي الحالي الذي هو انتاج قانون انتخابي عجيب غريب لا يعرف سرّه غير «حزب الله». فوق ذلك كلّه، لم يكن للحكومة اللبنانية الحالية ان تتشكل لو لم تفرج عنها ايران التي استطاعت تغيير «المعايير» التي تتشكل على أساسها الحكومات في البلد.
هل الوضع الراهن اقصى ما تستطيع ايران تحقيقه في ظلّ غياب عربي عن البلد؟ الجواب ان لبنان ما زال يقاوم، لكن الكثير سيعتمد في نهاية المطاف على ما يدور في المنطقة كلها وفي الداخل الايراني. تبقى ايران، رغم كلّ العضلات التي تعرضها خارج حدودها، دولة فاشلة على كلّ صعيد، خصوصا على الصعيد الاقتصادي. ليس لديها نموذج تقدمه للبنان وغير لبنان غير ميليشياتها المذهبية التي تعني ثقافة الموت ولا شيء آخر.
قتلت ثقافة الموت رفيق الحريري. تكاد ان تقضي على لبنان... لكنّها لا يمكن ان تنقذ ايران ولا مشروعها التوسّعي في أي بلد من بلدان المنطقة، خصوصا في العراق البلد الذي بدأ شعبه يظهر اكثر فاكثر مدى انزعاجه من الهيمنة الايرانية وكلّ المشاريع بها.