على رغم أنّ استشهادَ الحريري ساهم في تحرير لبنان من «الاحتلالِ السوري» بالنسبة إلى مليون ونصف مليون لبناني تجمّعوا وتوحّدوا في 14 آذار 2005، إلّا أنّ شارع تيار «المستقبل» شعر بانتكاسة كبيرة عند لحظة اغتيال «أب التيار» و«الزعيم الأول» للطائفة السنّية.
هذه الإنتكاسة كبرت ككرة ثلج، منذ الانتخابات النيابية الأولى بعد الاغتيال و«التحالف الرباعي»، مروراً بـ7 أيار 2008 و«اتفاق الدوحة»، ومعادلة «سين. سين» عام 2010 ومن ثمّ الانقلاب على الرئيس سعد الحريري في كانون الثاني 2011... إلى وصول حليف «حزب الله» العماد ميشال عون بتسوية مع الحريري إلى سُدّة رئاسة الجمهورية وتفكّك قوى 14 آذار... وصولاً إلى الانتخابات النيابية الأخيرة في أيار 2018 التي قلّصت عدد نواب تيار «المستقبل» فخسر الحريري الإبن 17 نائباً لتصبح كتلتُه النيابية مؤلّفةً من 20 نائباً.
تتعارض الآراء وتتنوّع حول مرحلة «الحريرية السياسية» الأولى التي إمتدت من الـ 1990 إلى الـ 2005 وحول أهداف اغتيال الحريري الأب ومفاعيله، وحول مرحلة ما بعد الإغتيال ومصير إرثه السياسي ومسار تيار «المستقبل».
الحريري الأب لم يكن يحاول إعدادَ ميراثٍ سياسيّ لا لتيار ولا لحزب ولا حتى لأولاده أو أيِّ شخصية أخرى. ولم يكن يُحضِّر أيَّ شخص من عائلته ومنزله ليكون خليفته في العمل السياسي. بالنسبة إليه، كان يؤدّي «واجباته ومبادءَه وكان يحاول تحقيقَ أحلامه».
بعد بروز حالة رفيق الحريري، حاول قريبون منه كثر إقناعه بإنشاء نوع من التنظيم، سُمّي عام 1992 «تيار رفيق الحريري»، بعدها سُمّي تيار «المستقبل» بناءً على طلبه لكي لا يكون اسمُه هو محور التيار. وعند استشهاده دخل هؤلاء في صدمة وضياع، خصوصاً أنّ أحداً لم يكن مؤهّلاً ومُعَدّاً لتولّي قيادة مرحلة ما بعد الرئيس الشهيد.
لذلك، فإنّ إيجادَ إطار حزبي لتيار «المستقبل» إستغرق أشهراً بل سنوات بعد استشهاد الرئيس المؤسّس. ولم يكتمل الإطار حتى الآن، فهناك ثغراتٌ في إدارة التيار وتنظيمه.
وعلى صعيد الإرث السياسي للحريري الأب، أخذ الرئيس سعد الحريري الإرث على عاتقه، والصفةُ الأهم التي حملها على كتفيه هي «الصدق والتضحية إلى أقصى ما يُمكن في سبيل إستقرار البلد، ولتخليد ذكرى رفيق الحريري من خلال إنجاح مشروعه لحماية لبنان وتأمين الاستقرار وإعادة لبنان على الخريطة الدولية.
وتمكّن سعد الحريري سريعاً من ذلك، فمع الوقت راكم كثيراً من الخبرات وتعلّم من التجارب والإخفاقات وبعض الهزائم ليصل إلى الخيارات التي وصل إليها الآن. وما يقوم به هو أفضل الممكن لحماية إرث رفيق الحريري، خصوصاً بعد درس المعطيات والواقع السائد».
لكنّ شارع تيار «المستقبل» ومعه الشارع السنّي يشعران بالاستضعاف والانكسار، وتُرجم ذلك في الانتخابات النيابية، ومردّ هذا في رأي البعض التسويات التي أجراها الحريري داخلياً وخارجياً.
أمّا بالنسبة إلى تيار «المستقبل» فإنّ كل ما تقدّم «يشكل دليلاً واضحاً على أنّ سعد الحريري، ومنذ دخوله المعترك السياسي، يفكّر كرجل دولة لا كزعيم، ما يُشكّل قوته وضعفه في آن، لأنه أبقى تركيزَه على طريقة تأمين الاستقرار والتخفيف من المشاحنات والنزاعات التي لا طائل منها، ففلسفته ومنطقه ينطلقان من أنّ النزاعات تدمّر كل شيء. وعلى رغم إدراكه أنّ في إمكانه الكسب أكثر على مستوى الشعبوية وإطلاق الشعارات الفارغة، وحشد آلاف الأشخاص في تظاهرات ليهتفوا بحياته، فإنه يعلم أنّ هذا الأمر لا يؤدّي إلّا إلى تدمير كلّ ما عمل عليه رفيق الحريري طوال حياته».
على أنّ الحريري قال في مناسبات كثيرة: «أعلم أنني أتّخذ خيارات ستخسرني في الانتخابات ولكن لا يهمّ إن خسرت في مقابل أن نحقّقَ الاستقرار الذي يحتاج إليه الناس».
المساكنة مع «حزب الله» لا ترضي شارع «المستقبل»، لكنّ الحريري الإبن يعرف حدودَ هذه المساكنة، وهي تأمين أكبر مقدار من الاستقرار في البلد من دون الذهاب إلى مواجهات عقيمة لا تؤدي إلّا إلى الاضطراب وعدم إنجاز أيّ شيء.
وبالنسبة إليه، إنّ المحكمة الدولية هي الفصل بينه وبين «حزب الله»، فالاتّهاماتُ أصبحت واضحة ومن المُنتظر صدور الأحكام، فبدلاً من الذهاب إلى نزاع مفتوح، اختار الحريري التقاضي في المحكمة.
ويعترف «المستقبليون» أنّ «شهرَ العسل» الذي قضاه التيار وحلفاؤه بعد 14 آذار 2005 إنتهى عند الانتخابات النيابية الأولى، فـ»طبيعة السياسيين اللبنانيين هي طبيعة قادة قبائل ولم يتمكّنوا من أن يكونوا رجالَ دولة. لذلك، فقدنا لحظةً تاريخية، لن تعود أبداً، وتدهورت الأوضاع ووصلت إلى الحضيض خلال السنوات الماضية، وفقدنا تلك الفرصة لننتظر الأقدار علّها تخلّصنا من السلاح غير الشرعي».
أمّا الحفاظ على مشروع الرئيس الشهيد ومصير تيار «المستقبل» فباتا مترابطين في رأي مؤيّدي فكر وسياسة كلّ من الأب والإبن، ويكمنان في نجاح الحريري الإبن وفريقه في إدارة الملفات على مستوى الحكومة والمستوى الإقليمي والدولي لكي يستعيدَ الثقة، لأنّ الحريري الأب بنى الثقة بأعماله ونجاحاته.
وبمعزل عن الشقّ التنظيمي في «التيار الأزرق»، النجاح في المشاريع هو الذي سيُعيد الألق إليه أو على الأقل الأفعال التي يلمسها الناس مباشرة، وأيضاً إقناع الجميع عملياً أنّ سياسة سعد الحريري تمكّنت فعلاً من تخفيف الأضرار على لبنان.