يُطلّ علينا عيد الحُبّ المعروف بالفالانتان، نسبَة إلى القديس فالانتينوس الذي قَضى شهيداً للحُبّ الأصيل النَّظيف الخالي من عيوب الشهوة والإنحراف، في كلِّ مُنتَصف شباط من كلّ سنة، حاملاً إلينا أفروديت إلهةُ الحبّ والجمال والشّهوة والرّغبة الجنسيّة وعلاقاتها المُتفلّتة، وابنها إيروس الذي يسير على خُطاها في الجنوح إلى اللذّة الجنسيّة، وألف مُنتَجٍ ومُنتج مُرفَق. وبالطبع، مَن يعرف القديس فالانتينوس، وقصّة حياته وبذل ذاته، يُدرك إدراكاً جيّداً بأنّه بريء من عيده هذا الذي يُسَوّقه السّوق؛ فما يُقدَّم لنا في هذا العيد باسم الحُبّ ليسَ حُبّاً، بل جِنساً وتَفَلُّتاً أخلاقيّاً سوقيّاً، وشتّان ما بين الحُبّ والجنس! فما هو الحُبّ؟.
لنفهم المعنى الأصيل للحُبّ، علينا أن نرجع إلى أصل الكلمة. الحُبّ Amore"" في الأصل اللاتيني، كلمة تتألّف من جزئيين "A" وتعني "لا" و"Mortis" وتعني "موت". وعندما يقول الواحد للآخر "أنا أُحبّكَ"، يعني أنه يقول له "لَن أدعك تموت"!.
"لن أدَعَك تموت"، تفترض أنّ شخصاً آخر سيفعل، أي سيموت. سيأخُذ مكان الآخر الذي يُحبُّه ويفتديه. بهذه المحبّة خاطبنا الله بإبنه يسوع المسيح، الذي كانت حياته من أوّلها إلى آخرها حُبّاً، وقد بَرَز هذا الحُبّ بشكلٍ جليّ على الصليب؛ فعلى الصليب حقّق يسوع بالفعل ما علّمه وعاشه، فمات لكي لا نموت، ومعنى ذلِك أنّه مات لكي يكون سبب حياة لنا وللبّشرية جمعاء.
"الله محبّة"(1يو4: 8)، هذه هي صورته التي أطلّ بها على البشرية. وهذه المحبّة هي التي أوجدت الخلق كلّه، والإنسان على صورتها فمثالها(تك1: 27)، وهي التي غرست في كيان الإنسان الدّعوة إلى الحُبّ. والإنسانُ يكون على صورة الله ويصيرُ إنساناً حقّاً بقدر ما يتجاوب مع هذه الدّعوة، فيُحبُّ بالمحبّة نفسها التي أحبّه بها الله الخالق، ويستقي منها ليُحسِن الحُبّ؛ حبّ الله وذاته والآخر، وينأى بِه عن الشهوة والنفعيّة والأنانيّة والفَردانيّة. وهكذا يُضحي الحبّ فِعلَ حضورٍ دائِمٍ وتَكَرُّساً للآخر واهتِماماً بِه، وبالتالي، إرادَةً ثابِتَة للتَضحيّةِ وَالموتِ في سبيلِ الآخَر ومِن أَجلِه. إنَّ حُبّاً كَهذا، يقول للبابا بندكتوس السادس عشر:" لا يَبحَثُ مِن بَعدُ عَن ذاتِهِ، أَي عَن الغَوصِ في نَشوَةِ السعادَة على حِساب الحبيب، بَل على العَكسِ مِن ذلِك، إنَّهُ يَبحَثُ عَن خيرِ الحَبيب: فيُصبِحُ تَجَرُّداً واستِعداداً للتضحيةِ، وحتى إنَّهُ يَبحَثُ عنها ".
هذا هو الحُبّ، وكلُّ شيء آخرَ لا يُشبِهُه لا يُدعى حُبّاً بل جِنساً أو أيّ شيء آخر، ولكنه ليس حُبّاً البتّة. فالحُبُّ الحقيقيّ مُختَلِفٌ بطبيعَتِهِ وصورته عَمّا يُعرَضُ مِن على شاشاتُ التلفَزَةِ وفي الأفلامِ السينَمائِيَّةِ وعلى صفحاتِ المجلاّت. فنَحنُ هُناكَ أَمامَ حُبٍّ مُعَوَّق، جُرِّدَ من الأحاسيس النقيّة، ومن الحَصرية والخصوصيّة، ليُقَدَّم كأيِّ سِلعَةٍ أُخرى للمُستهلكين، سُرعان ما تذبُل وتُرمى في سلّة النفايات ليَجري البحث من جديد عن "حُبِّ" آخر مُسَلَّع. وهذا الحُبّ، إن جاز التعبير، قَد نَسِيَ أَصلَهُ وجُذورهُ الإلهيّة، وحصر نفسه في الإيروس Erosأي الرغبة الجنسيّة الجامحة، كقوّة تفرِضُ نفسها على العلاقات البشريّة وتتحكّم بِها، لدرَجة أنّه ألغى المعنى الإنساني لهذه العلاقات وتعامل مع الشخص كوسيلة إثارة وحسب، لا كشخص، للوصول إلى ما كانت تدعوه الفلسفة اليونانيّة "الجنون الإلهي". وهذا الإيروس Eros الذي يلتَهِمُ كلّ شيء ليُشبِع نَهَمَه في اللذّة، "يحتاج بالضَّرُورة لأَنْ يخضع للتأديب والتنقية فلا يكون مجرَّد خبرة لذةٍ عابرة، بل تذوق مُسبق لذروةِ الوجود، لتلك السعادةِ التي يشتَاقُ لها كل كياننا".
وما بين حُبٍّ وحُبّ، أو بالأحرى، ما بين نَموذجين من الحُبّ، تكمن المُشكِلة. "حُبٌّ" ينهَلُ من الإيروس ويقتَصِر على اللذّة الجنسيّة مع ما يُرافقها من أكسسوارات تُحاول أن تزيد منها وتجعلها أكثر قوّةً. وحُبٌّ آخر لا يستقصي الإيروس، ولكنّه يؤَدّب الإيروس بالأغابي "Agape"، ويؤطّره في إطار الحُبّ الزّوجي الأصيل الذي يمنع التلاعب به أوانحلاله أوسقوطه في الموقّت وفي كَمٍّ من الأفعال الفاسِقة والمُنحرفة. وهذا الحُبّ-الأغابّي يقوم على هِبة الذّات المتَبَادلة والمجّانيّة والكاملة، التي لا عَودة عنها، ويتحقّق شيئاً فشيئاً في الزّمن، لا بل يحتاج إلى الزّمن لكي يبلغ نضوجه ويصيرَ حُبّاً، ذلك أنَّ الحُبّ يَصيرُ حُباً، ويبلغ كامل تألّقه في الأمانة التي تجمع شخصين تعاهدا على الحُبّ والحياة المُشتركة.
في العالَمِ، الكثيرُ الكثير مِن الجنس، والقليلُ القَليلُ مِن الحُب، وَما نَحنُ بِحاجَةٍ ماسَّةٍ إليهِ هو الكثيرُ الكَثيرُ مِنَ الحُبِّ الأَصيل، إذ عِندها يُصبِحُ الجِنسُ نتيجةً حتميّةً لِحُبّ صادِق يُغّذيه ويُنمّيه، وكلّ ما هو دون ذلِك وَهمٌ، لَن يَصِل بالبشرية إلى أبعد من حدود الجسد، الذي ترتفع قيمته وتتدنى بحسب مقياس الجمال والشباب والعمر.