أكرر دوماً - فقط للضرورة الواضحة - أنني أشعر بالحرج عندما أكتب عن شخصية أدرك سلفاً أن معظم القرّاء لا يعرفون عنها. لكن علني أسامَحُ على شعور بالمشاركة في فقدان رجل له أهمية عامة. راسل بيكر، الذي غاب عن 93 عاماً قبل أيام، كان أحد كتّاب الأعمدة الذين نشأت على قراءتهم كل يوم. وفي متعة وشغف كنت أقرأ كتبه ومطالعاته التي ينشرها خارج «نيويورك تايمز» حيث ظهرت زاويته طوال 36 عاماً، وهي أطول مدة لكاتب في الجريدة.
عندما فكرت في وضع مذكراتي قبل نحو عام، كان أول الكتب التي عدت إليها كنموذج، سيرة طفولته التي أصدرها بعنوان growing up. افتتح بيكر أسلوباً جديداً في الصحافة مثلما افتتح وليم فولكنر وإرنست همنغواي، أسلوباً جديداً في الرواية، مع فارق جوهري، هو مَيله الدائم إلى المفاكهة والسخرية. وكان من الصعب أن تتبين الدراما من الدعابة في مقالاته. وقد أدرك أن المقال الصحافي يذهب مع غياب الشمس، فيما تبقى الأعمال الأدبية إلى زمن طويل. إلا أنه لم يستطع الخروج من إغراء الصحافة اليومية وحجم القراء الذين ينتظرون مقالته وقد هيأوا لها ابتسامة والتفاتة. كتب في كل شيء، وكأنه يلاعب الآلاف من مُدمنيه، بحيث لا يحزرون عما سيكتب هذا الصباح. فالحدث بالنسبة إليه هو الموضوع الذي اختاره، وليس الحدث الذي جرى في البلاد. ومن أشهر أعمدته التي تحولت إلى دروس في معاهد الصحافة، يوم كتب أنه خرج من منزله القائم عند الشارع 58 (نيويورك) سقط أمامه على الرصيف رأس من البطاطا النيئة وانفجر إلى قطع صغيرة.
أصيب بالخوف والقلق. وكتب يقول إن المرء بعد عمر معين يتخيَّل دائماً النهايات التي لا يريدها لنفسه. لكن لم يخطر له إطلاقاً أن يموت ضحية رأس بطاطا يسقط عليه من الطابق الثامن والأربعين: «ولم ترق لي الفكرة في أي حال». وفي عموده التالي عاد إلى الموضوع نفسه ليكتب أن فكرة جديدة خطرت. ففي بعض الأيام تكون الأحداث بطيئة أو عادية. وعندها، يمكن لوكالة أنباء الأسوشييتد برس أن تنشر خبراً مثيراً عنوانه «البطاطا تهرس الرجل».
مُنِح راسل بيكر جائزة بوليتزر مرتين؛ الأولى عام 1979 حين وضعته «التايم» غلافاً لها، والثانية عام 1983 عن سيرة طفولته في مدينة بالتيمور أثناء سنوات الركود الاقتصادي. وفي السيرة فصل عن انتقال عائلته إلى السكن في شقة تقع فوق مكاتب شركة للجنازات. وعليك أن تقرر وأنت تقرأ ذلك السَرد المذهل إذا كانت المسألة مبكية أو العكس.
لا أدري كم من الصحافيين تأثروا بأسلوب راسل بيكر ونهجه في الكتابة. لكن طوال 36 عاماً كنت واحداً من قرائه على الدوام، فيما تعثر أو تعذّر. وفي تلك المقابلة نفسها أعرب عن رأيه بأن صحف أميركا الكبرى أصبحت بلا نجوم في أعمدتها. وكم كان على حق، وخصوصاً بعد وفاته.
سمير عطا الله