انقضى اليوم الأول من جلسات الثقة على خلاصة واضحة: الحكومة التي تزيّن بيانها الوزاري بمكافحة الفساد عليها أن تبدأ بنفسها. أما الإجراءات التي تحدّثت عنها، فعنوانها لا يجب أن يكون الفقراء، بل الأغنياء والمصارف تحديداً، وهذه خطوة يُستشفّ من الكلمات التي ألقيت في الجلسة أنه لن يكون سهلاً التملص منها
جلسة الثقة تشكل حاجة لكثر من النواب. النقل المباشر يعزز هذه الحاجة. وإلا فلماذا يطلب 68 نائباً الكلام في جلسة الثقة المسبقة، وهم ــ في أغلبيتهم ــ لهم ممثلون في الحكومة؟ ولماذا يريد 16 نائباً من تكتل لبنان القوي الكلام، وهم يمثّلون القوة الأبرز في «حكومة العهد الأولى». هو سحر الكاميرات وسحر التنافس المناطقي والسياسي، حتى بين أبناء البيت الواحد. لكن هذا العدد قد يتغير. فتيار المستقبل سحب 9 من طالبي الكلام، واقتصر الأمر على كلمة للنائب سمير الجسر متحدثاً باسم الكتلة. وتردد أنه اشترط أن يفعل «لبنان القوي» الأمر نفسه. وهذا قد ينسحب على كتل أخرى، في جلسة اليوم.
لكن مع ذلك، ربما الظهور حق. هذا ما أكده النائب فيصل كرامي الذي انتظر 14 عاماً ليعتلي المنبر الذي تركه والده في عام 2005، حيث دُفع إلى الاستقالة إثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري. كرامي كان عالي السقف في انتقاد «العهد القوي». أسهب كغيره في الحديث عن الفساد المتفشي في البلاد. وهذا العنوان كان الطبق الرئيسي في جلسة أمس، التي التأمت فيها الحكومة الجديدة للمرة الأولى في مواجهة المجلس النيابي.
وجوه جديدة كثيرة. مجهولة ومعروفة. وزيرات الحكومة تباهين بأنفسهن في مجلس الرجال. هنّ أربع نساء تداعين في الجلسة الصباحية لأخذ صورة تذكارية تجمعهن بعيداً عن الرجال. صورة مي شدياق إلى جانب محمد فنيش بدورها استرعت الاهتمام. تأففها من كلام النائب حسن فضل الله كان واضحاً أيضاً. لكنها الآن وزيرة، وللمنصب قدرة على امتصاص الغضب، حتى من كلام جميل السيد.
فضل الله والسيد كانا نجمي الجلسة. فضل الله طبع بطابعه الجلسة الصباحية، والأمر نفسه فعله السيد في الجلسة المسائية. ليس واضحاً لماذا يغادر الحريري مكانه كلما تحدث السيّد. الأخير ظُلم 4 سنوات في السجن لجريمة أثبت القضاء أنه لم يرتكبها. ذلك كفيل باعتذار الحريري الذي كان يدير الأجهزة الأمنية والقضائية التي أودت بالسيد إلى السجن، لكنه بدلاً من ذلك تراه يغادر القاعة برفقة عمّته بهية، عندما يبدأ السيد بالكلام. «رئيس الحكومة المغيّب» دعاه السيد إلى التعلم كيف يستمع إلى نائب، قائلاً: «شوية ثقافة عن الدولة لا تضرّ أحداً». بعد برهة من الزمن عاد «المغيّب». قال، مستعيناً بأول ميكروفون تصل إليه يده: «ظهر رئيس الوزراء المغيّب».
ظهر الحريري فعلاً، لكنه ظل تائهاً عن مقعده، متوتراً من معتلي المنبر. على الواقف، استمع إلى ما بقي من الكلمة. والسيد لديه الكثير ليقوله. حمل البيان الوزاري وفنّده في معظمه. لكن أبرز الملفات التي توقف عندها، ملف الأملاك البحرية المنهوبة. تلك التي كُشف عن مرسوم، صدر في نهاية كانون الثاني 2018، شرّع نهبها، عبر فرض غرامات رمزية على محتلّيها. هذا نفط لبنان لمن يبحث عن إيرادات للخزينة، قال السيد. هذه أربعة مليارات في السنة، تغني عن كل مشاريع سيدر وملياراتها التي ستذهب هباءً كما ذهبت أموال مؤتمرات باريس التي سبقت.
السيد لم يكن وحده الذي تطرق إلى حتمية مساهمة المصارف في إنقاذ البلد. سبقه إلى ذلك فضل الله وآخرون. ذلك كلام بدا متناسقاً. لم يعد بإمكان المصارف التملص كثيراً من المسؤولية. ثمة فريق وازن في الحكومة وفي المجلس صار مؤمناً بأن لا مفرّ من تحمّل المصارف لجزء من المسؤولية الإنقاذية. إذ لم يعد بإمكان الحكومة مدّ يدها إلى «قرش الفقير»، الذي تشتري المصارف بمدخراته سندات الخزينة، التي يعود الفقير نفسه ليتحمل كلفة فوائدها، فتزيد بذلك ثروات طبقة المصرفيين وشركائهم ويزداد في المقابل الدين العام، غير الممكن تسديده، كما قال السيد.
وإذا كان الحريري قد ضبط انزعاجه من كلام السيد، فإن الوزير علي حسن خليل لم يفعل. بأعلى صوته أنكر ما قاله السيد عن إجبار الضمان الاجتماعي على صرف 600 مليار ليرة من أموال المضمونين لشراء سندات خزينة لتأمين رواتب القطاع العام. وفي الانفعال نفسه، أنكر أن تكون المالية قد تأخرت عن دفع مستحقات مزارعي القمح.
وبالرغم من أن شظايا كلام السيد طاولت كل من في السلطة ، إلا أن حاكم مصرف لبنان كان له النصيب الأكبر. اتهمه مباشرة باستعمال الهندسة المالية الأولى التي نفذها والتي أدت إلى حصول المصارف على أرباح تقدَّر بـ 5٫5 مليارات دولار، في معركة رئاسة الجمهورية.
قبله كان النائب حسن فضل الله، يفتتح «المعركة» مع المصارف وممثليها في المجلس النيابي وفي الحكومة. وباسم حزب الله، كرر أن لا حلّ لمسألة الدين، إلا بتواضع المصارف واقتناعها بأنه لم يعد بالإمكان الاستمرار كما لو أن شيئاً لم يكن. لم يقل إن على الدولة أن تلزم المصارف بإجراءات تحدّ من مكتسباتها أو أن تلغي جزءاً من الديون، أو أن تشطب بعضاً من خدمة الدين، كل ما قاله أن على الدولة أن تبدأ بحوار جدي مع المصارف والوصول معها إلى حل مناسب للطرفين، انطلاقاً من أن أي إجراء يُتخذ لتساهم المصارف في خفض النفقات على الدولة، لن يشكّل سابقة، حيث سبق للرئيس رفيق الحريري نفسه أن طلب من المصارف شراء سندات بصفر بالمئة فائدة، ولم يخرج حينها من يحذر من تداعيات المسّ بالمصارف على الاقتصاد.
هذا سقف موقف حزب الله الذي يفترض أن يعمل على تحقيقه بعد نيل الحكومة الثقة، وهو الموعد الذي يعد الحزب بأن يبدأ معه حملة مكافحة الفساد.
وأكد فضل الله «أننا ذاهبون إلى المعركة الصعبة، لأن مال الشعب مثل دماء الشعب، وخصمنا هو الفاسد ومستعدون للتعاون مع كل من يريد محاربة الفساد».
فضل الله عاد وتحدث عن حسابات الدولة التي أنجزتها الإدارة المالية، كاشفاً أنها تضم مستندات ووثائق لو كشف عنها لأودت برؤوس كبيرة في السلطة إلى السجن، ومطالباً وزارة المال بإرسال نتائج عملها في هذا المجال إلى المجلس النيابي.
هل يحتاج المواطنون إلى أن من يعلمهم أن كثراً خرجوا من السلطة أغنياء؟ لكن فضل الله، من دون أن يسمي أحداً، استرسل في الحديث عن الاتهمات بالسرقة التي يسوقها وزراء، بعضهم ضد البعض الآخر. كذلك تطرق تفصيلياً إلى اتفاقية قال إنها تُعَدّ حالياً مع البنك الدولي لتمويل الوظائف الوطنية، بقيمة 400 مليون دولار. فنّد كيف تعدّ هذه الاتفاقيات، وكيف تكون الأولوية لاقتراض المبلغ، لا لترشيد صرفه. كشف أن 100 مليون دولار منها مخصصة لبند المستشارين في المجلس الأعلى للخصخصة، في بلد يفترض أن حكومة «هيا إلى العمل» تضع في أولوياته إنقاذ المركب من الغرق.
ولأن المعركة ستكون صعبة، ولأن المسؤولين غالباً ما يحتمون بطوائفهم، دعا فضل الله اللبنانيين إلى ألّا يكونوا وقوداً لمطامع البعض وحراساً للناهبين والسارقين، لمجرد أنهم ينتمون إلى طوائفهم.
أما النائب أسامة سعد، فلفت في كلمته إلى أن «أسوأ ما في بيانكم أنكم تنكرون أبوة الأزمة وتدعون الإصلاح، فبدايتكم لا تبشر بالخير. فلمَ الثقة؟»، وأضاف: «لا ثقة لحكومة نغّصت حياة اللبنانيين 9 أشهر حتى تشكلت حصصاً ومكاسب، ولا ثقة لحكومة كرست كونفدرالية الطوائف بذريعة الميثاقية». وهو كان النائب الثاني الذي أعلن حجب الثقة عن الحكومة، من بين المتكلمين، بعدما سبقه النائب جميل السيد إلى ذلك.