في الموروث الشعبي الفارسي، غالباً ما يرتبط الرقم 40 بمفاهيم «ماورائية» أو غيبية، مثل «الشباب الثاني»، أو على سبيل التناقض ولوج عتبة الحكمة الناضجة. ويدخل الصوفيون في «الخلوة»، أي الانسحاب التام عن العالم الخارجي لمدة 40 يوماً يحاولون خلالها تصفية النفس وتنقية الروح وتخلية الذهن. وكان الطوفان العظيم وثيق الارتباط بقصة النبي نوح قد استمر لمدة 40 يوماً وليلة من الأمطار المتواصلة. وفي إيران القديمة، كانت منافسات الفروسية والمبارزة السنوية لمدة 40 يوماً تجتذب كثيراً من المتسابقين. وبالنسبة إلى الشاعر الإيراني السعدي، فإن الرجل يبلغ ذروة استيقاظه مع بلوغه العقد الرابع من عمره، بمعنى اكتمال إدراكه الحقيقي للكون، أي القوس الذي تنغلق أطرافه باتصال دائم خلال عقد كامل من الزمان.
وربما هذا هو السبب وراء أن رجال المذهب الشيعي الذين يُحكمون سيطرتهم اليوم على السلطة في طهران يحاولون تحويل الذكرى السنوية للثورة إلى مناسبة ذات طابع خاص. فلقد كرست السلطة جميع مواردها لتقديم عرض رائع ومبهر عبر العديد من المعارض، والمهرجانات، والمؤتمرات التي تحيي ذكرى النجاحات الكثيرة التي حقَّقَتها الثورة منذ اندلاعها.
لذا، لمَ لا نعقد مقارنة سريعة بين الموضع الذي تستقر عنده الثورة الخمينية راهناً وما حققته الثورات الأخرى حين بلغت حد النضوج الثوري، زعموا، بمرور أربعين حولاً على قيامها؟ وذلك لأن الثورة الخمينية الإيرانية تحمل في طياتها طموحات التبشير الثوري من النطاق العالمي، بمعنى رغبتها الأكيدة والشديدة في «تصدير» الذات إلى العالم بأسره، فمن الإنصاف عقد المقارنة بين أدائها لقاء أداء الثورات الأخرى التي احتملت الطموحات والآمال ذاتها. ومن واقع هذه الاصطلاحات، فهناك ثلاث ثورات مستحقة للمقارنة بين أيدينا: «الثورة الفرنسية» لعام 1789، ثم «الثورة البلشفية الروسية» لعام 1917.
وكلتا الثورتين ادعت بأنها تحمل النموذج المناسب للبشرية بأسرها، وحاولت كلتا الثورتين تمديد الفضاء الآيديولوجي من خلال شن الحرب، وتنفيذ سياسات القمع، وتطبيق آليات الدعاية مع النتائج التي تباينت كثيراً من حالة إلى أخرى.
صارت الثورة الفرنسية، مع بلوغها الأربعين عاماً، كمثل الفصل المنتهي من تاريخ الأمة الفرنسية التي كانت تستعين بدروس الماضي لاستشراف آفاق المستقبل. ولقد مرت كثير من الأحداث تحت جسر الحياة ابتداء من عام 1789. فلقد استعادت أسرة البوربون الحاكمة، التي أطاحت بها الثورة الفرنسية في دموية بالغة الروع، ذروة مجدها. وكان الملك شارل العاشر يحاول القبض بيد من حديد على السلطة الاستبدادية، الأمر الذي أفضى إلى اندلاع ثورة مصغرة تلك التي جاءت بالأمير لويس فيليب بعد ذلك بعام، وهو الأمير الحاكم من الأسرة المنافسة في أورليانز، إلى السلطة، ملكاً جديداً للبلاد.
ومع ذلك، وبحلول عام 1830، توقفت فرنسا تماماً عن التحرك بالمد الثوري، واستأنفت التعامل كدولة قومية تحمل الطموحات التقليدية للقوة الصاعدة. وكان التركيز منصباً على تعزيز وترسيخ المؤسسات الديمقراطية في البلاد، التي أدركت القيادة الفرنسية الحاجة الملحّة إليها إن رامت فرنسا معاودة الظهور على المسرح السياسي كقوة قومية أوروبية كبرى. ومن ثم تعززت سلطات البرلمان التمثيلي، في حين سُمح للصحافة، التي وُصفت بالقوة الديمقراطية الرابعة، بالنمو والتطور إلى سلطة رئيسية معنية بالتقدم.
وبحلول عام 1830 أيضاً، أدركت فرنسا أهمية بناء اقتصاد رأسمالي حديث وقادر كمصدر من مصادر القوة القومية، والأكثر في أهميته من حيث كسب النفوذ في الخارج من أي دعايات آيديولوجية ممجوجة. وكان من سمات المرحلة الثقافية تلك رعاية علماء الاقتصاد الليبرالي أمثال فرنسوا غيزو الذي كانت نصيحته لأولئك الذين يبغون خدمة وطنهم شديدة البساطة: « كن ثريا!». وتميّزت تلك المرحلة أيضاً بظهور موجة تحديث البنية التحتية للبلاد، التي كان من المقرر أن تشتمل على بناء السكك الحديدية الفرنسية الأولى، وتشييد الموانئ الحديثة، والصناعات الرئيسية الجديدة في جميع أنحاء البلاد. وبعد مرور أربعين عاماً على اندلاع الثورة الفرنسية، وعلى الرغم من سنوات الحرب النابليونية العقيم، والاضطرابات الداخلية العارضة، تمكنت فرنسا في خاتمة المطاف من مضاعفة حجم اقتصادها الوطني.
وعلى الصعيد السياسي، فإن تلك المفاهيم الأكيدة مثل سيادة القانون، والفصل بين السلطات، والسيادة الوطنية، كانت تزداد زخماً، ورسوخاً، وعمقاً، واحتراماً، يوماً بعد يوم.
وبدأ «الأثر الفرنسي»، الذي كان مقتصراً في الأعوام السابقة على المسائل ذات الصلة بالدبلوماسية، والإتيكيت، والبروتوكول، والأزياء، والرفاهية، يمتد إلى عالم السياسة بمفاهيم جديدة مثل حقوق الإنسان، والمساواة، والتكافل الاجتماعي، الأمر الذي استمال قلوب الجماهير من جميع أرجاء العالم. وجرت محاكاة مبادئ نابليون من قبل العديد من البلدان الأخرى حول العالم، ثم تحول التعليم الفرنسي، لا سيما العلوم التطبيقية منه، إلى أنموذج يُحتذى ويُتبع من جانب الكثيرين.
وإثر تطبيع العلاقات مع كبار المنافسين على الصعيد الدولي، لا سيما إنجلترا وبروسيا، تمكنت فرنسا من اللحاق بالمسعى الأوروبي الشهير لبناء الإمبراطوريات الخارجية. وكانت نقطة الانطلاق في الحملة الاستعمارية الفرنسية، التي كانت ترمي إلى تحويل فرنسا إلى ثاني أكبر إمبراطوريات القرن التاسع عشر الميلادي، هي الاستيلاء على مدينة الجزائر إلى الشمال من القارة الأفريقية.
بعد أربعين عاماً من اندلاع الثورة الفرنسية، عاودت فرنسا الظهور على المسرح العالمي كقوة أدبية وفنية هائلة. وأخرجت العديد من الكُتّاب والمؤلفين الناشئين، أمثال الروائي الفرنسي ستندال، والكاتب أونوريه دي بالزاكن وفيكتور هوغو، الذين ذاع صيت شهرتهم الآفاق وإلى أبعد من حدود فرنسا ذاتها. ثم ازدهرت الفنون الفرنسية، إذ خرج من عباءتها عمالقة مثل أوجين ديلاكروا. وأصبحت الموسيقى الفرنسية منافسة أكيدة لنظيرتيها الألمانية والإيطالية، وذلك بفضل جان باتسيت لولي، وغابرييل فوري، وجان فيليب رامو، وجاكومو بوتشيني، وجورج بيزيه. وأرسى مسرح ما بعد الحقبة الثورية أركانه ودعائمه من خلال الكونت دي ميرابو، وأوجين مارين لابيشيه، وجورج فيديو، من بين آخرين. ويرجع الخلاص الفرنسي الحقيقي من الحقبة السابقة وما أحرزته من نجاح في الأوقات اللاحقة، في جزء منه، إلى إدراك أن الثورة ليست إلا وسيلة لاكتساب القوة، وليست أبداً أداة من أدوات ممارسة السلطة. وكان المهم هو إغلاق فصل الثورة من التاريخ الفرنسي وإعادة إحياء فصل الدولة كإطار يحكم الحياة الوطنية في البلاد.
ثم ينتقل بنا المقام إلى الثورة البلشفية الروسية؛ فبعد مرور أربعة عقود على استيلاء البلاشفة الثوريين على السلطة في بتروغراد، خبرت روسيا، التي صارت في مركز اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، انتقالاً مماثلاً من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة. ففي عام 1956، تمكن نيكيتا خروتشوف، على اعتبار منصبه بالسكرتير الأول للحزب الشيوعي الحاكم في الاتحاد السوفياتي، من الكشف عن الجرائم المروّعة التي ارتكبها نظام الدولة في عهد جوزيف ستالين، وكان يهدف من وراء ذلك إلى إغلاق فصل الثورة تماماً من التاريخ الروسي الحديث. وأسفر ظهور ثلاثي تقاسم السلطة ممثلاً في: نيكولاي بولغانين رئيساً لوزراء البلاد، وكليمنت فوروشيليف رئيساً للبلاد، بالإضافة إلى خروتشوف رئيساً للحزب الشيوعي، عن العودة إلى السلوكيات السياسية شبيهة الصلة بالدولة القومية.
وفي خضم هذا السياق، شرع الاتحاد السوفياتي في تطبيع العلاقات مع مختلف البلدان القريبة منه والبعيدة. وجرى التوقيع على بيان رسمي مع اليابان، قاضياً بذلك على آخر مرحلة من مراحل الحرب بين الدولتين من دون أن يتحول إلى معاهدة رسمية للسلام بين الجانبين. ثم جرى إطلاق عملية عقد القمم الثنائية مع رؤساء الولايات المتحدة الأميركية، تلك التي تطورت لاحقاً لتوجيه الدعوة إلى زعماء آخرين، بما في ذلك شاه إيران، إلى موسكو، في زيارة دولة ذات طابع دبلوماسي وسياسي كبير، الأمر الذي بعث برسالة حول نيات الزعماء السوفيات التوقف عن انتهاج مسار تلقين الدروس الآيديولوجية لطائفة من الطوائف الموالية.
وكان إطلاق ترسانة الطاقة النووية السوفياتية، التي حملت رمزاً مهيباً بإجراء أول الاختبارات الذرية والهيدروجينية، يشير إلى نيات موسكو للتنافس مع الخصوم الرأسماليين من واقع أنها دولة قومية بدلاً من كونها ثورة وطنية. وأشار إطلاق الأقمار الصناعية «سبوتنيك 1»، و«سبوتنيك 2» الذي حمل الكلبة «لايكا» إلى الفضاء الخارجي في رحلة حول الأرض، إلى عزم وتصميم الاتحاد السوفياتي على التحول إلى قوة صناعية عملاقة ذات طموحات عالمية من الطراز الأول.
وعلى الصعيد الداخلي، أسفر إغلاق فصل الثورة من التاريخ الروسي المعاصر إلى إصدار عفو عام شمل ملايين المواطنين. ولقد سُمح لكثير من البلدان، مثل الشيشان في شمال إقليم القوقاز والتتار بشبه جزيرة القرم، إلى العودة من المنفى الإجباري في سيبيريا وكازاخستان.
ولقد أحرز الاتحاد السوفياتي بعض النجاحات في «تصدير» نسخته الثورية باستخدام موارد الدولة لإسناد الحركات الشيوعية في غير موضع من العالم. وفي عام 1949، أنجز الشيوعيون الصينيون غزوهم للصين في الوقت الذي كانت الحركة الشيوعية لا تزال تحظى بجاذبية خاصة في شبه الجزيرة الكورية وفي الهند الصينية كذلك. وسرعان ما تحولت بلدان أوروبا الشرقية والوسطى إلى الدوران في فلك الاتحاد السوفياتي ليس بفضل الآيديولوجية الشيوعية الجذابة وإنما بسبب الأسلحة السوفياتية الفتاكة. وفي أوروبا الغربية وأميركا اللاتينية، عثرت الأحزاب الشيوعية، التي مولتها موسكو في أغلب الأحيان، على جماهير غفيرة، وفي بعض الحالات، وهي إيطاليا على سبيل المثال، كانت الأحزاب الشيوعية قد اقتربت من الفوز بالسلطة من خلال الانتخابات.
وبعد مرور أربعين عاماً على الثورة البلشفية، كان الاتحاد السوفياتي يفتح المجال أمام الإبداعين الأدبي والفني، على الرغم من بقاء العديد من القيود الآيديولوجية. ومع ذلك، فإن ما يسمى بـ«ذوبان الجليد» قد جعل من الممكن للكاتب والشاعر الروسي بوريس باسترناك أن يخرج برائعته «دكتور زيفاغو»، ولأعمال أخرى من تأليف ميخائيل بولغاكوف، وآنا أخماتوفا، وأوسيب ماندلستام، أن تجد سبيلها للطباعة والنشر.
وسرعان ما تمكّن جيل كامل من الشعراء، وعلى رأسهم يفيغيني يفتوشينكو، وفارلام شالاميف، من كسر القيود الحديدية للآيديولوجية الشيوعية التي كانت جاثمة على صدور الناس في عهد لينين وتحت حكم ستالين.
وبحلول عام 1957، استعادت السينما الروسية، والباليه، والموسيقى زخمها ومكانتها المفقودة إثر اندلاع الثورة البلشفية، ثم ما تلاها من عقود من «الرعب الثوري» تحت حكم لينين وستالين.
بعد مرور أربعين عاماً من اندلاع ثورتها، تحولت روسيا إلى واحدة من القوتين العظميين في العالم، تماماً كما أصبحت فرنسا القوة الثانية في أوروبا بعد انقضاء أربعة عقود على قيام ثورتها. وكان إحياء روسيا، بعد أربعين عاماً على الثورة، كدولة قومية من أبرز العوامل في مقدرتها على البقاء حتى بلوغ الصدمة الهائلة بتفكك الاتحاد السوفياتي ثم انهياره.
ويمكن طرح حالة مماثلة بالإشارة إلى الثورة الصينية لعام 1949. وبحلول عام 1989، أغلقت الصين ذلك الفصل الثوري من تاريخها تماماً، وافتتحت فصلاً جديداً كدولة قومية ذات طموحات وطنية، مما يعني تكراراً أكيداً للتحارب الفرنسية والروسية وإنما بطريقتها الخاصة.
لقد تمكنت كل من فرنسا، وروسيا، والصين من النأي بالنفس بعيداً عن الزخم والضجيج الثوري القديم، ثم التحوّل إلى ولادة جديدة للدولة القومية، الأمر الذي لم تفطن إليه أو تدركه الجمهورية الإسلامية في إيران التي تحتفل حالياً بمرور أربعين عاماً على اندلاع الثورة في البلاد. وتُعزى حالة عدم اليقين من المستقبل، والانحدار الاقتصادي الراهن، والعزلة الدبلوماسية الدولية، والتضليل الاجتماعي والثقافي، إلى إخفاق قادة وزعماء البلاد في إدراك أن الثورة ليست إلا مرحلة موجزة وقصيرة الأمد في عمر الأمم، بينما تكوين الدولة القومية هو مشروع وطني ممتد وطويل الأمد.
ربما قد حان الوقت لدى ملالي إيران لطلب العلم والمعرفة، حتى وإن كانت في فرنسا أو روسيا أو الصين.