لا أحد يستطيع التشكيك في عراقة الشعب الإيراني وحيويّته وحضارته الممتدة آلافاً من السنوات وفي استعماله عقله وقدرته على تحمّل أقسى الظروف وأصعب الأوضاع وعلى مواجهة التحديات، وهذا أمر افتخر به دائماً، وعبّر عنه لعرب كثيرين في طهران وخارجها بالقول: أنتم تلجأون إلى “طاولة الزهر” للتسلية ونلجأ نحن إلى الشطرنج الذي يحتاج إلى العقل ويدرّب عقول من يمارسونه. ولا أحد يستطيع التشكيك أيضاً في انتماء الإيرانيّين إلى وطنهم وفي افتخارهم به وفي رغبتهم الكبيرة في جعله من بين الأرقى والأقوى والأكثر تقدّماً في العالم وفي كل الميادين. وقد برهنوا ذلك يوم تجاهلوا خلافاتهم الحادّة سواء بين أطراف النظام الإسلامي الحاكم منذ 40 سنة أو بينه وبين معارضيه في الداخل كما في الخارج وتحديداً الأميركي والأوروبي، وأيّدوا بكل الوسائل والطرق دخول دولتهم النادي النووي العالمي، رغم رفض العالم ذلك ولا سيّما الغربي الذين يؤمنون بقيمه مثل الديموقراطية والحريّة وحقوق الإنسان. لهذا السبب لم يتفاجأ اللبنانيّون عندما سرد الأمين العام لـ”حزب الله”، اللبناني الهويّة والإسلامي الإيديولوجيا على الطريقة الإيرانية، الإنجازات العلميّة التي حقّقتها “دولة الوليّ الفقيه” في إيران بعقول أبنائها وسواعدهم وأيديهم. طبعاً ربّما يُشكّك المعادون لهذه الدولة ولاعتبارات متناقضة في حجم الإنجازات التي تحدّث عنها السيّد حسن نصرالله، وربّما يكون بالغ في رأي آخرين. لكن واقع إيران كما يعرفه العالم المُعادي لها والخائف منها والعالم الواقف معها انطلاقاً من مصالحه، وهو فاعل وقوي رغم حجمه بالمقارنة مع العالم الأوّل، يرجّح نجاحها رغم المبالغة.
هل يعني ذلك أن نصرالله لم يُبالغ في شيء على الإطلاق في الذكرى الأربعين للثورة الإسلاميّة في إيران ولقيام جمهوريّتها؟
يمكن حصر المبالغة في الجانب العسكري من حديثه. فإيران تمتلك ترسانة عسكريّة تقليديّة وصاروخيّة باليستية كبيرة جدّاً، ولديها سلاح جوّي وبرّي وبحري وإمكانات صنع سلاح نووي مستقبلاً، وقد تكون متفوّقة بذلك على دول في إقليمها تمتلك أسلحة متنوّعة بدورها. لكن يجب عدم إغفال حقيقة أساسيّة في هذا المجال هي أن هذه الدول يصبح بعضها أقوى من إيران إذا أضيفت قوّة أميركا وحلف شمال الأطلسي إليه. ومنها تركيا والمملكة العربية السعوديّة. فضلاً عن أن الأسلحة المتنوّعة الأميركيّة موزّعة في الشرق الأوسط كما في معظم مناطق العالم. وإذا اضطرّتها إيران إلى توجيه ضربة عسكريّة إليها فإن النتيجة لن تكون في صالحها لأسباب عدّة، منها الفرق بين أسلحة مجرّبة ومُختبرة وأخرى تجربتها أقل. وفي هذا المجال أُعلمت إيران، على نحو غير مباشر طبعاً، أن إغلاقها باب المندب ومضيق هرمز أو إغراقها سفينة حربيّة أميركيّة أو أكثر، سيدفع واشنطن إلى القضاء على سلاحها البحري وخلال ثماني ساعات. وإذا ذهبت إيران أكثر في التحدّي والمواجهة فإن بناها التحتيّة العسكريّة والمدنيّة المتنوّعة ستُدمّر خلال 24 ساعة. وهذه معلومات سمعها مسؤولون لبنانيّون وعرب وشرق أوسطيّون غير عرب من أكثر من جنرال أميركي وخصوصاً منذ بدء رئاسة ترامب وإخراجه بلاده من “الاتفاق النووي” بين إيران والمجتمع الدولي ممثلاً بالمجموعة الدولية 5 + 1. طبعاً تستطيع إيران إعطاء لبنان دفاعاً جويّاً وكهرباء وأموراً كثيرة يحتاج إليها. لكن هذا لا يعكس “ارتياحها على وضعها” كما يُقال في الداخل ومع الخارج. وربّما في ذلك يكمن بعض المبالغة. فالمتابعون للوضع في الجمهورية الإسلامية من قرب اليوم يقولون “إن العقوبات التي اُعيد فرضها عليها والأخرى الجديدة شديدة وصعبة، إذ قلّص ذلك وارداتها الماليّة ومساهماتها الماليّة في الانفاق على حلفائها في المنطقة ومنهم بل أهمّهم “حزب الله”. فهو لديه “مصاريف” ضخمة جدّاً وخصوصاً بعد اشتراكه في حرب سوريا، وبعد إقدامه على تأسيس لواء عسكري خاص به اسمه “الرضوان” يُنفق عليه من ماله مباشرة. فضلاً عن أن هناك أيضاً “سرايا المقاومة” التي أنشأها في لبنان من زمان، والتي يحتاج إلى استمرارها بعد تطويرها لتوسيع اختراقه الساحة السُنيّة. ولولا حرب سوريا لما تضايقت إيران ولما تضايق هو أيضاً. ومن الأدلّة على تضايقه أن أصحاب الرواتب فيه وهم كثيرون جدّاً قبضوا أخيراً نصف راتب في بداية الشهر على أن يستكمل دفع النصف الآخر في منتصفه”. ويضيف هؤلاء “لا يعرف أحد ماذا سيحصل. فإيران تنتظر انتهاء سنوات ترامب الأربع العجاف، لكنّها تخشى أن تصبح ثماني. طبعاً قال الوليّ الفقيه علي خامنئي قبل أشهر أو سنة أن الخارج مسؤول عن الصعوبات الكبيرة الشديدة لبلاده، لكن الداخل مسؤول مثله عنها. ولا بُدّ من التصدّي لهذا الداخل الفاسد والمُفسِد مع متابعة مواجهة الخارج الأميركي وغيره للتخفيف من حدّة تأثير عقوباته. وقد بدأت الحملة عليه. وبعضه معروف مثل تجّار العملة الذين أسهموا في إضعاف العملة الإيرانيّة بتجميع الدولار الأميركي وحجبه عن السوق. وربّما تدفع حكومة الرئيس حسن روحاني أو هو مباشرة الثمن مع آخرين”.
في أي حال يُشير المُتابعون أنفسهم إلى أن “الإمارات العربيّة المتّحدة كانت معبراً أو ممرّاً خلفيّاً لتجارة إيران مع الخارج بموافقة من الرئيس الأميركي السابق أوباما، لا سيّما في أثناء مفاوضات بلاده معها على مدى سنوات التي أثمرت في النهاية اتفاقاً نووياً. ساهم ذلك في تضخّم دخل الإمارات العام والخاص وفي نهضتها الكبيرة، إلّا أن ترامب أقفل هذا المعبر بعد خطواته السلبيّة ضد إيران. فاضطرّت شركات كثيرة في هذه الدولة إلى الإقفال والانتقال إلى تركيا التي قدّمت لها كل التسهيلات والإعفاءات الضروريّة. وصارت هي ممرّ تجارة إيران مع الخارج”.