كل شيء بات صعبا في لبنان، إلا الموت الذي يتربص بالمواطنين في كل مكان وزمان، مكشرا عن أنيابه، مستقويا بدولة تشرّع له الأبواب تاركة أبناءها يواجهون مصيرهم من دون حماية أو سلامة أو أمن أو أمان أو حتى أمل يساعدهم على مواجهة أعباء الحياة.
أسوأ ما يمكن أن يواجهه اللبنانيون هو اليأس الذي بات يستوطن نفوسهم.. اليأس من السلطة السياسية، اليأس من إمكانية التغيير، اليأس من واقع يتحكم فيه الفساد والهدر والسرقات والسمسرات والمحسوبيات، اليأس من حياة لا تتوفر فيها أدنى مقومات العيش بكرامة، واليأس من وطن بات أشبه بغربة للسواد الأعظم من المواطنين الذين بدأوا يفقدون إنتماءهم الوطني شيئا فشيئا..
ليس جورج زريق أول المنتحرين، ولن يكون آخرهم، فقبله كثيرون حاولوا الانتحار حرقا وطعنا، وسُمّا، ورميا بالرصاص، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر فرصة ثانية عله يضع حدا لجحيم يسمى زورا بهتانا حياة..
لكن جورج المنتحر إحتراقا، جاء ليعبر عن شريحة واسعة من اللبنانيين، عن عائلات كانت تعيش برضى الستر، فوجدت نفسها من دون سابق إنذار أسيرة وضع إقتصادي ومعيشي صعب رماها تحت خط الفقر، وعن أعداد هائلة من المواطنين من مختلف الطوائف والمذاهب، يتذوقون على مدار ساعات النهار والليل طعم الذل ألوانا على أبواب المستشفيات، وعند إدارات المدارس من خاصة وما تفرضه من أعباء مالية، ومن رسمية وما تحتاجه من واسطة وتبويس أياد لايجاد مقعد دراسي، وأمام المدعومين المستقوين بالسلاح المتفلت، وعلى الطرقات، وفي الدوائر الرسمية، وأمام التقنين الكهربائي، والتلوث، والأمراض، والبطالة، والفقر، وفوق كل ذلك أمام دولة تنتزع حقوقها رسوما وضرائب وعسكرة، ولا تقيم وزنا لحقوق مواطنيها في تأمين أبسط مستلزمات الحياة بما يساهم في العيش الكريم.
لقد أحرقت النار جسد جورج زريق الذي أقدم على الانتحار في ساعة تخل، وأحرقت قلوب زوجته وولديه وذويه وأصدقائه وكل من سمع بهذه الفاجعة، لكنها في الوقت نفسه نزعت ″ورقة التوت″ عن سلطة ″يا رب نفسي″، سلطة عطلت البلد تسعة أشهر لتنزع مكاسبها وحصصها الحكومية بوزير بالزائد وآخر بالناقص ثم شكلت حكومة على قياسها، سلطة لا تجد في الوطن سوى ″قطعة جبن″ تعمل على تقاسمها، سلطة تقدم مصلحتها على مصالح مواطنيها فلا تكلف نفسها تأمين أبسط مقومات العيش لهم، سلطة لا تدري أن التعليم حق، والعمل حق، والكهرباء حق، والطرقات الآمنة حق، والبيئة النظيفة حق، وكرامة الانسان حق.. سلطة ترتكب الموبقات وتمارس الزبائنية والمحسوبيات وتحاضر بالعدالة والمساواة والشفافية، سلطة مستعدة لأن تنهش بعضها بعضا وتعيد أجواء الحرب وتهدد البلاد والعباد في حال تعرضت مصالحها لأي خطر، أما مصالح المواطنين فعليها السلام.
في تونس أحرق البوعزيزي نفسه، فأشعل ثورة أطاحت بنظام الحكم في البلاد، وفي لبنان يسأل الناس من التالي، في ظل شعب يعاني موتا سريريا، شعب مشتت مهزوم، أكثريته مرتهنة سياسيا وأقليته عاجزة إلا من ثورات إفتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي لا تسمن ولا تغني من جوع، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.