جورج، هل تسمعني؟ أتوسّل إليك، قل لي إنك تسمعني.. إنتظر، لا تُشعل القدّاحة التي في يدك. إنتظر قليلاً لعلّ البنزين يتبخّر عن ثيابك وتُغيّر رأيك، إسمع قبل أن تبدأَ النارُ بالرقص على أنغامِ وجعك.
أريد أن أقول لك كم نحن بحاجة إلى أشخاص بمثل بطولتك وجرأتك وتصميمك.. أريد أن أقول لك كم نحن بحاجة إلى أشخاصٍ مثلك ليس ليُضرموا النارَ في أجسادهم، بل ليشعلوا ثورةً شعبية، ليشعلوا غضبَ الناس، ليشعلوا قرفَ الأهل والأولاد المخنوقين من أوضاعٍ تهابُها شياطينُ الجحيم ويتشمّس فيها حطبُ الشتاء الناشف.
يا جورج، إنتظر، لا تُشعل قدّاحتك، فنحن بحاجة إلى بطلٍ يحمل راية مطالبنا، يحمل زيرَ فقرنا ووجعنا، بطلٌ يحمل بشاعتنا بسواعده ويغنّي لها حتى تنامَ وتحلمَ بغدٍ أجمل.. نحن بحاجة إلى بطل يقود صرختنا المخنوقة في صدورٍ تتنشّق الجبن والاستزلام والتبعيّةَ العمياء ويملؤها خوفٌ يشعل نيرانُه الزعيم.. ألا تستطيع أن تكون هذا البطل الذي انتظرناه طويلاً ولم يأتِ؟
جورج، هل تسمعني؟ أبوابُ القصور والفيلات والمكاتب الفخمة التي طرقتها لطلب المساعدة تسأل عنك الآن، تريد أن تبيعَ مسكاتِها المذهّبة ودرفاتِها المنحوتة حتى تدفعَ بها أقساطك وتسدّ ديونك.
إسكربينةُ ابنتك الجديدة تسأل عنك، تريد أن تعود إلى واجهة المحلّ الذي اشتريتها منه حتى تعيدَ لك ثمنَها علّه يسند خابية يأسك. شنطةُ ابنتك وربطاتُ شعرها الزهرية وتنورتُها الكحلية وخيطانُ أزرار قميصها تسأل كلّها عن رائحة عطرِك ودفءِ حضنك، وترجوك أن تبقى كما أنت ولا تملأ جسدَك برائحة الدخان والحريق.
جورج، نحن نكرهك ونغار منك لأنك تفوّقت علينا وسجَّلت موقفاً في مباراة غير عادلة، نتنافس فيها نحن الفقراء مع الفاسدين والسارقين والمستثمرين في تخاذلنا...
احترقت يا جورج وحرقتنا معك، لكن دعني أسألك، هل تفتخر الآن أنك أقدمتَ على ما لا نجرُؤ نحن على فعله، وسمحتَ لكثير من السياسيين أن يتشاطروا ويتسابقوا على التنديد والشجب والاستنكار. هل تفتخر الآن أنك سمحت للذين خاطوا ثوبَ يأسك أن يفصّلوا الآن مواقفَ وطنية وإنسانية على مقاسِ طمعهم وتجاهلهم لوجعك ووجعنا.
نعم، لقد قرّرتَ التضحية بنفسك في بلدٍ لن نتضامنَ معك فيه بأكثر من تغريدة وسطر في جريدة وتقرير على تلفزيون.. وما أن يبردَ جسدُك من رقصة النار، حتى نعود جميعُنا إلى برودة غيرتنا المتجمّدة على مصالحنا ونبرك على صحّة أولادنا ومستقبلهم.
يا جورج، إذا أشعلتَ النارَ في جسدك، مَن تظنّ سيتحمّل المسؤولية؟ إدارة المدرسة، نائب منطقتك، وزير طائفتك وحزبك المفضّل، راعي أبرشيّتك، صاحب محطّة الوقود التي اشتريت منها البنزين، الناطور الذي فتح لك باب المدرسة، جارك الذي لم ينتبه إلى أنينك، أنا، نحن، هم، مَن؟
لا نعلم، لكن بالتأكيد ستكثر التقاريرُ والمواقف والبيانات التوضيحية، وسنتراشق جميعنا المسؤولية، وستكثر صفائحُ البنزين في أيدي اللبنانيين، وسننتظر شجاعاً آخر يعترف أمام الجموع أنّ النارَ ولهيبَها أرحمُ ألفَ مرّة من جحيم هذا البلد وقسوة نواطير السياسة والإصلاح.
يا جورج، أنت يتّمت ولدَين، وأمّا نحن فنسير أيتاماً بذلّ وجبن نبحث عن أبٍ يرعى مصالحنا الوطنية.
أنت احترقت في وضح النهار وعلى الملأ، ولكن نحن نقتل أنفسَنا من أجل تعليم أولادنا وتأمين لقمة العيش، ونحترق بالسرّ وخلف الحيطان والأبواب الموصدة بنارٍ نشعلها كلّما وضعنا في صناديق الاقتراع أوراقَ نعوتنا الموقّعة على بياض، ونطلب من الفائزين ملءَ الفراغ بالمكان والزمان المناسبين.
لكن لا تخف، كلها يومان وسنتفّق إذا كنت قتيلاً أم شهيداً، ولكن الويل لنا نحن الأحياء الذين لن نعرف حتى لو بعد 200 عام إذا كنا شعباً أم مجرّد حطب معدٍّ للنار.