قبل عشرين عاما، غاب الملك الحسين بن طلال. يصعب أن تمرّ هذه الذكرى من دون ذرف دمعة على رجل عظيم لم يضع الأسس لمؤسسات الدولة الأردنية فحسب، بل آمن أيضا بقوانين الحداثة والتطور أيضا. كان عملة نادرة في عالمنا العربي حيث الشهوة الوحيدة إلى السلطة بأيّ ثمن كان. حاول نقل المنطقة العربية إلى مكان آخر. لم يتخلّ عن هذا الطموح حتّى الأيّام الأخيرة من حياته حين سلّم القيادة إلى نجله الأكبر عبدالله الثاني. فعل ذلك بسلاسة مؤكدا صلابة المؤسسات الأردنية.
لا يمكن إلّا الانحناء أمام رجل استطاع فعل ذلك بعيدا عن الممارسات القمعية التي ميّزت معظم الحكّام في دول المشرق العربي طوال مرحلة امتدت منذ خمسينات القرن الماضي وصولا إلى يومنا هذا. أنقذ الحسين بن طلال الأردن من كوارث كثيرة وأنقذ الفلسطينيين من أنفسهم. أنقذهم في مرحلة معيّنة من خيار الوطن البديل الذي عملت إسرائيل طويلا من أجله قبل أن يطوي الأردن صفحته بفضل الحسين بن طلال وعبدالله الثاني الذي استطاع إكمال المسيرة الأردنية الهاشمية على طريقته. يفعل ذلك على الرغم من مخاطر كبيرة تواجه الأردن ونوع جديد من التحديات لم تحل دون عبور المملكة إلى شاطئ الأمان مجددا.
ظُلم الملك الحسين كما لم يظلم أحد في هذه المنطقة. يكفيه تعويضا عن هذا الظلم أنّ ذكراه بقيت عطرة. لم يقدّم إلّا الخير. عاش من أجل الأردن وخدمة الأردن وما كان في الماضي القريب قضيّة العرب الأولى، أي قضيّة فلسطين التي قدّم من أجلها ما لم يقدّمه أحد في ظلّ مزايدات عربية لا حدود لها قادت إلى خسارة الضفة الغربية والقدس.
تختزل سيرة الملك الحسين مأساة المشرق العربي الذي يدفع اليوم ثمن عدم الاستماع إليه وإلى ما كان يعمل من أجله. يكفيه فخرا أن الأردن تحوّل في أيّامه إلى ملجأ لكل عربي يحتاج إلى مكان يقيم فيه في ظل عدوانية إسرائيلية وضغط سكاني فلسطيني داخلي، كانت له إيجابيته على الصعيد الاقتصادي… وفي ظلّ جحود من عرب كثيرين. على رأس الجاحدين بعثيو سوريا الذين ورطوا العرب، بمن فيهم جمال عبدالناصر بثقافته المحدودة وجهله للتوازنات الإقليمية والدولية، في حرب حزيران – يونيو 1967.
من يصدّق أن المملكة الأردنية الهاشمية استطاعت بفضل الملك الحسين أن تنهض مجددا بعد حرب 1967 التي وجد الأردن نفسه مجبرا على خوضها في ظلّ حالة من الجهل والتخلّف العربيين كانت سائدة في مصر الناصرية وسوريا البعثية حيث كان حافظ الأسد وزير الدفاع، فيما السنّي نورالدين الأتاسي في الرئاسة والضابط العلوي الآخر صلاح جديد في موقع الرجل القويّ في البلد.
كان على الحسين بن طلال تحمّل الكثير منذ صعوده إلى العرش في السابعة عشرة من العمر في العام 1952، إلى يوم وفاته في السابع من شباط – فبراير 1999. تحمّل ما لا يستطيع أي إنسان عادي تحمّله، بما في ذلك تحريض جمال عبدالناصر عليه ومغامرات ضباط متأثرين بالمدّ الناصري أرادوا اغتياله. لم يردّ على كلّ من أساء إليه سوى بالعفو وتجاوز الإساءة تاركا للتاريخ أن يحكم على سلوكه وعلى تلك الروح الإنسانية التي ميزت كلّ تصرفاته.
في كلّ ما فعله عندما كان على عرش الأردن، عمل الحسين في ظلّ المبادئ الإنسانية من جهة ومحاولة ربط الأردنيين والعرب عموما بالمستقبل من جهة أخرى. لم يكن سعيدا في العام 1970 عندما اضطر، من أجل إنقاذ عرشه وإنقاذ الأردن وتفادي تقديم خدمة مجانية إلى إسرائيل، إلى طرد المسلحّين الفلسطينيين من المملكة بعدما مارسوا كلّ أنواع الاعتداء على مؤسسات الدولة الأردنية.
هناك من رفع، وقتذاك، شعار “طريق القدس تمرّ بعمّان”. ليس معروفا بعد كيف كان يمكن خدمة القضيّة الفلسطينية عن طريق خطف طائرات ركّاب إلى الأردن ثمّ تفجيرها في “مطار الثورة” في قلب الصحراء قرب مدينة الزرقاء. يصعب، إلى الآن فهم لماذا سكت ياسر عرفات عن تلك التصرفات الصبيانية وعن دعوات جماعة نايف حواتمة (الجبهة الديمقراطية) إلى إسقاط النظام. رفعت في شوارع عمّان في 1970 شعارات من نوع “كلّ السلطة للجماهير”. ليس معروفا إلى اليوم من هي تلك الجماهير التي كان تنظيم فلسطيني تابع للمخابرات السوفياتية (كي.جي.بي) يريد تسليمها الأردن.
لم يكن الملك حسين مجرّد ملك استثنائي يتحلّى بالإنسانية. كان قبل كلّ شيء إنسانا جريئا وشجاعا. كان قائدا حقيقيا. في المرتين اللتين إنقاد فيهما للشارع، دفع الأردن ثمنا كبيرا. كانت المرتان التورط غصبا عن المملكة في حرب 1967 ثم تفادي اتخاذ موقف واضح من صدّام حسين لدى ارتكابه جريمة اجتياح الكويت صيف العام 1990. كانت لدى العاهل الأردني الراحل حسابات خاصة به في ظلّ غياب الوعي الشعبي لأبعاد الدخول في حرب مع إسرائيل أو تفادي إدانة ما ارتكبه النظام العراقي في حقّ الكويت.
إذا وضعنا هذين الحدثين الكبيرين جانبا، كان الملك الحسين في كلّ وقت بعيد النظر. تجاوز في مرحلة معيّنة العقدة العراقية المتمثلة في الجريمة التي ارتكبها ضباط تحرّكهم الغريزة والجهل نفّذوا انقلاب الرابع عشر من تمّوز – يوليو 1958 وقتلوا أفراد العائلة الهاشمية في العراق. تجاوز أيضا أحداث 1970 مع الفلسطينيين، على الرغم من إقدام هؤلاء على اغتيال وصفي التلّ إحدى أبرز الشخصيات الأردنية في أثناء وجوده في القاهرة.
قاد الملك الحسين الشارع. لو لم يكن قائدا حقيقيا لما اتخذ قرار فكّ الارتباط مع الضفّة الغربية في العام 1988 راسما حدود الدولة الفلسطينية المستقلّة التي قد لا ترى النور يوما بسبب تردّد ياسر عرفات في مرحلة معيّنة والعدوانية الإسرائيلية في معظم الأحيان. قبل ذلك، في العام 1974، استوعب الملك الحسين قرار قمّة الرباط باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية “الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني”. ليس معروفا إلى الآن، هل شكل القرار خسارة للفلسطينيين أم لا، خصوصا أن إسرائيل احتلت الضفّة الغربية والقدس الشرقية عندما كانتا تحت السيادة الأردنية.
تعاطى الملك الحسين في كلّ وقت مع الواقع. لعب الدور الأبرز في إعادة مصر إلى جامعة الدول العربية عندما اتخذ قرارا بإعادة العلاقات معها في العام 1985 في حين انتظر معظم العرب قمّة عمان في 1987 ليسيروا في هذا النهج.
خلق الملك الحسين الدور الأردني الذي لا يزال حيّا يرزق. وهذا ما ستثبته الأحداث المقبلة على المنطقة، خصوصا في سوريا. أعاد الحياة البرلمانية إلى الأردن في وقت كانت الحرب الباردة تشرف على نهايتها مع سقوط جدار برلين. وقع اتفاق سلام مع إسرائيل في العام 1994 راسما الحدود النهائية للمملكة الأردنية الهاشمية. دعم قبل ذلك بقوة العراق في الحرب التي خاضها مع إيران بين 1980 و1988. أدرك باكرا الخطر الذي تمثله إيران الخميني على العرب عموما وعلى النسيج الاجتماعي العربي على وجه الخصوص.
الأكيد أن إنجازات كثيرة تفوت من يكتب عن الملك الحسين في الذكرى العشرين لرحيله الباكر. لكنّ الأكيد أيضا أنّه يستحيل تجاهل دور هذا الإنسان في صنع تاريخ المشرق العربي. تكفي مقارنة بين الأردن اليوم وبين ما آلت إليه سوريا للتحقق من أن الحسين بن طلال بنى دولة حقيقية من لا شيء في ظلّ ظروف أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها بالغة التعقيد والصعوبة…