لا يهم أن ينفي الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، أن تكون حكومة لبنان الوليدة هي حكومة حزب الله. ليس من مصلحة الرجل التباهي في ذلك، وهو الذي يعلم في قرارة نفسه أنه وحزبه يحددان منذ سنوات مسار البلد ومصير فريقه الحاكم. فإذا ما ارتأى الخصوم نعت البلد بأنه “دولة حزب الله”، فإن الحكومة فيه هي تفصيل لا يمكن أن يأتي إلا وفق شروط توازن القوى. وفي حساب بسيط للوحة تلك التوازنات، يقطف الحزب ثمار فلاحة ناجحة في لبنان وسوريا مخصّبة بأخرى إيرانية في حقول المنطقة.
بعد أحداث “7 أيار” الشهيرة عام 2008، غادر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط معسكر “14 آذار”. تخلى الرجل، مضطرا، عن خطاب عالي النبرة صدحت به منابر الحلف السيادي، إثر غزو قوات حزب الله لـ”الجبل” فيما قوات أخرى للحزب كانت تقترب من دارته في قلب بيروت. فهم جنبلاط انقلاب موازين القوى، أو بالأحرى بروزها على حقيقتها، بعد أن شُلّت أيدي العواصم القريبة والبعيدة، من المفترض أنها حليفة، وتأملت من بعيد سقوط البلد وحكومته، مذاك، أسيرين في يد الحزب وأجنداته.
افتضح أمر هذا الأسر بشكل رسمي، وربما برعاية دولية، منذ أن انقلب الحزب وحلفاؤه على حكومة سعد الحريري عام 2011 حين كان الأخير مجتمعا برئيس الولايات المتحدة باراك أوباما داخل البيت الأبيض. لم تعلق واشنطن على ذلك الأمر، ربما لاعتباره “تافها” داخل المشهد الدولي العام. ولم تر في الانقلاب على “حليفها” تحديا مباشرا للنفوذ الأميركي في لبنان والشرق الأوسط.
عرفنا في ما بعد أن حسابات أوباما الإيرانية لإنتاج الاتفاق النووي الشهير كانت أهم من الحريري وما يمثله في البلد. غادر الحريري بلاده إلى منفاه، فيما بقيت العواصم الدولية أثناء سنين ذلك المنفى الطويلة تتعامل مع البلد وحكومته، وتولي “دولة حزب الله” الرعاية والعناية.
انتقل وليد جنبلاط إلى مساحة أرادها وسطية بين تحالفي 8 و14 آذار اللذين طبعا الحياة السياسية اللبنانية منذ مقتل رفيق الحريري عام 2005. تعايش الرجل بوجع مع قواعد الوصاية الجديدة وهو الذي لم يستطع قبل ذلك إلا التعايش مع وصاية دمشق القديمة على شؤون البلد. وفيما غاب الحريري طويلا قبل أن تشحذه تجربة النفي الطويل وتمنحه جرعات فائضة من البراغماتية، يتقدم الخلاف الحالي بين الرجلين الحليفين (جنبلاط – الحريري) متمحورا حول تباين في وجهات النظر في كيفية التموضع داخل دولة الحزب لا التمرد عليها.
لا يملك الرجلان قوة مواجهة واقع الأمر الذي يفرضه حزب الله على البلد. وليست في أجندة الحزب (في الوقت الحالي) إزالة تلك الزعامات وإنهاء حضورها السياسي. وعلى قاعدة هذا الواقع رضي الزعيمان بتحديد حراكهما ونفوذهما داخل اللعبة السياسية وفق الهامش الذي يتيحه الحزب. رسم قانون الانتخابات الذي رعاه حزب الله تلك الأحجام داخل مجلس النواب، فيما حددت غرفة عمليات الحزب حصص الرجلين داخل الحكومة كما داخل طوائفهما. وعلى أرضية هذا الواقع، يبدو خلاف هذه الأيام بين رجل الدروز الأول ورجل السنة الأول ضجيجا خارج الحسابات الدقيقة التي يحددها رجل الشيعة الأول.
الحكومة الجديدة ليست إلا نتاج تحاصص دقيق وفسيفسائي جرى وفق ما أراده حزب الله في جانب، أو وفق ما لم يمانع الحزب فيه من جانب آخر. تشكلت الحكومة الثانية لعهد الرئيس ميشال عون وفق قاعدة “ربط نزاع”، التي ارتضاها الحريري وجنبلاط في حكومة العهد الأولى. لا حديث عن سلاح حزب الله ولا عن أنشطته في سوريا ودول المنطقة ولا عن تبعيته الكاملة لأجندة الحاكم في إيران. الأمر وفق هذا المعطى بات خارج صلاحيات اللبنانيين وطبقتهم السياسية، وحلُّ تلك المعضلات مرتبط بالتسويات السياسية أو العسكرية الخارجية الكبرى التي لا قدرة للبنان أن ينخرط بها. ولم تولد الحكومة إلا حين تقلّصت حصة جنبلاط والحريري وسمير جعجع، ابتداء من ضغوط خلفية مارسها الحزب، انتهاء بالإذعان لشرط نصرالله شخصيا بتوزير من يمثل سنة “8 آذار”.
تشكلت حكومة سعد الحريري الجديدة بالنهاية حين أوقف حزب الله إخراج الأرانب من أكمامه. بدا واضحا ذلك البون الشاسع بين إطلالة نصرالله الغاضبة المهددة المهولة في نوفمبر الماضي لتمثيل حلفائه السنة، وبين الإطلالة الأخيرة الهادئة المهدِّئة الناصحة بتجاوز المماحكات من أجل خير الحكومة. في نوفمبر طالب جنبلاط بـ”تزبيط أنتانه”، فيما يستنتج قبل أيام بهدوء وسكينة أن “أنتانات” الجميع باتت حسنة التوجيه. يتذوق نصرالله حلاوة انتصاره. لا أحد يلقي بسهام ضد الحزب، فيما السهام تطلق عشوائيا، بين زعيم السنة وزعيم الدروز.
يدرك حزب الله أن أي انقلاب محتمل في موازين القوى الدولية سيتداعى مباشرة على موازين القوى الداخلية. يدرك أيضا أن التسوية الرئاسية التي دفع بها الحريري على نحو انقلابي مفاجئ، لم تكن لتجري إلا بعد أن جعلها الحزب خيارا وحيدا لإعادة فتح قصر بعبدا. مضى الحريري بشراكة كاملة مع الحزب في دفع ميشال عون نحو بعبدا على الرغم من امتعاض ورفض جنبلاط كما حليفه، حليف حزب الله، زعيم حركة أمل، نبيه بري. يدرك الحزب أيضا أنه لو قيّض للخصوم أن يفرضوا حكومة بتوازنات أخرى لفعلوا، وأن “طاعة” الخصوم الراهنة ليست إلا ميكافيلية تروم اتقاء الرياح بانتظار رياح مغايرة أخرى.
يجني نصرالله حصاده الداخلي. تحت سقف الحزب وبرعاية أمينه العام، أطلق صهر الرئيس عون ورئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، معاركه ضد الخصوم متحريا الثلث المعطّل الذي لم ينله. وبسبب هذا السقف ومزاجه أوقف باسيل النفخ بطموحاته وارتضى بالصيغة التي أخرجها الحزب لتمثيل سنته. ووفق ذلك السقف يخوض باسيل معركة اللاجئين السوريين ومعركة التطبيع مع دمشق ومعارك أخرى لاحقة.
جرت التسوية الرئاسية وتلك الشراكة المستجدة بين عون والحريري (وباسيل ثالثهما) داخل قواعد العمل التي سنتها “دولة حزب الله”. اجتمع العالم في باريس عارضا أكثر من 11 مليار دولار لمنحها إلى لبنان وفق ظروفه وموازين قواه المائلة بقوة لصالح الحزب. وتضخ واشنطن مساعداتها العسكرية ويتوافد مبعوثوها لتدعيم جسور الوصل مع دولة يقرر فيها الحزب شكل حكومتها ووجهة سياساتها الخارجية. على أساس هذه الأعراض يتعامل العالم مع لبنان، فكيف لأهل البلاد ألّا يقرأوا واقع الأمر ويعملوا وفق حقائقه.
يعود اتفاق الطائف ليكون مناسبة للنزاع الداخلي. ينبري جنبلاط مدافعا عنه ويرد الحريري مؤكدا الغيرة والحرص عليه. بين هذا وذاك، وكما كشفت أشهر التآليف الطويلة للحكومة، تبيّن أن سبيل العبور إلى الحكومة العتيدة لا يعير بالا كبيرا لنصوص الاتفاق ولديباجات الدستور. الأمر ليس جديدا، وليس اختصاص هذا العهد دون غيره. أمر البلد يُنجز بالتسويات والصفقات الخلفية والتي على أساسها تُأوّل النصوص ويجتهد بها. يبقى أن خلاف جنبلاط – الحريري هو عرضي على هامش متن يهيمن عليه حزب الله، بحيث أن نصرالله الذي يتحكم باللعبة يراقب بابتسامة ونصح نزق بعض اللاعبين.