خلال ثلاثة أيام (3 - 5 فبراير/ شباط 2019) كانت أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة محطَّ أنظار بني البشر، إذ شهدت حدثاً من نوعٍ جديدٍ على منطقتنا العربية والإسلامية، وعلى العالم. فبدعوة بادر إليها الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، قَدِم إلى الدولة والمدينة كلٌّ من البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، رأس الكنيسة الكاثوليكية، وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب. ويمكن القول من دون مبالغة إنها مبادرة لاقت تاريخاً وفتحت آفاقاً على مستقبل آخر للعلاقات بين المسيحية الكاثوليكية والإسلام. وربما مع الديانات العالمية جميعاً. وسأعرضُ السياقات التي تجعل من المبادرة واللقاء ووثيقة الأُخوة الإنسانية حَدَثاً يجب أن يكونَ له ما بعده.
الموافقة الأولى أو اللقاء الأول مع التاريخ والمستقبل أنّ البابا فرنسيس هو بالفعل نمطٌ جديدٌ من البابوات، ما عرفت الكنيسة الكاثوليكية نظيراً له في شخصيته ورؤيته وتطلعاته وسلوكه منذ المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965). فحتى يوحنا بولس الثاني، بابا «الإيمان والحرية»، والذي كان ودوداً مع المسلمين وضد الحرب على العراق، وعاون الولايات المتحدة في تجاوز الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، ما توافرت لديه هذه الروحية الإصلاحية بداخل الكنيسة، ولا هذا التضامُن العميق بالفعل مع آلام الفقراء والمعذَّبين في الأرض، ولا هذا الإحساس الخاص تجاه المسلمين باعتبارهم الأكثر معاناة بين أُمم العالم، كما أنّ دينهم وهو أكبر أديان العالم من حيث عددُ معتنقيه، هو الأكثر تعرضاً للظلم، من جانب أهل الديانات الأُخرى، ومن جانب الدول والشعوب الغربية على وجه الخصوص. منذ لحظة انتخابه عام 2013 تميزت شخصيته بعدة معالم: أنه من أصل إيطالي، لكنه وُلد وعاش في الأرجنتين في حي فقير في بوينس آيرس، وبدلاً من الانتماء إلى أحد الأحزاب اليسارية كما فعل كثيرٌ من زملائه الشبان في الخمسينات من القرن الماضي، قرر الدخول في الرهبنة اليسوعية، وأن يخدم الفقراء من هذا الطريق. وعندما صار أسقفاً للعاصمة في زمن ازدهار «لاهوت التحرير» ثم ظهور الديكتاتوريات بأميركا اللاتينية، ما انحاز إلى التمرد التحريري (كما حصل في عدة بلدانٍ بأميركا اللاتينية، القارة الكاثوليكية)، ولا كان صديقاً للجنرالات، وقد قال في ما بعد: التحريريون على حق، لكنك لا تستطيع خدمة الفقراء بإحداث انشقاقٍ في الكنيسة؛ أما الديكتاتوريات فيكرهها الله والناس! والمَعْلم الثاني من معالم شخصيته، ظهر فور انتخابه عندما اختار لنفسه اسم فرنسيس. وفرنسيس من بلدة أسيز بجنوب إيطاليا، هو الراهب المؤسس لرهبنة الفرنسيسكان، وقد عاش في أواسط القرن الرابع عشر، فأنشأ طائفة الرهبان الجوَّالين، ويُسمَّون أحياناً الشحاذين، الذين يحرصون على ألا يملكوا شيئاً مثل السيد المسيح، وأن يعملوا في خدمة الفقراء والذين ضربتهم الحروب والطواعين في ذلك الزمان. وهذه هي الخصيصة الأولى للقديس فرنسيس وطائفته. أما الخصيصة الثانية فكانت إيمانه بإمكان صنع سلام مع المسلمين، والخروج من الحروب الصليبية. ولهذا الغرض تحمَّل مشقة زيارة الملك الكامل الأيوبي سلطان مصر، الذي كان قد عقد هدنة مع الصليبيين وأعاد تسليم القدس إليهم بعد أن فتحها عمه صلاح الدين، وعجز هو عن الدفاع عنها. الأسيزي اعتبره رجل سلام، فزاره وتحدث إليه وأثنى على إنهائه الحروب، ودعاه لاعتناق المسيحية، فيصبح ملك ملوك الشرق، ويعمل مع البابا، ويحفظ بذلك السلام الذي أقامه مع الأعداء الذين يصبحون أصدقاء. وضحك الكامل وقال له: لكنّ بني قومي يعتبرونني خائناً. ولن يقبلوا أن تبقى أرضهم محتلة، ولذا ستنشب الحرب من جديد، فإذا أردتَ السلام أيها الراهب، فينبغي أن تنصح البابا والملوك بالخروج من ديارنا، ولن يعتدي أحدٌ من المسلمين على قبر المسيح وكنيسة القيامة، وستظلون تحجون بسلام، فقد كانت القدس بأيدي المسلمين لقرون، ولم يمسّ أحدٌ مواطن العبادة المسيحية فيها!
لقد أراد البابا فرنسيس القول إنه بابا الفقراء والمعذَّبين وجاء لخدمتهم، كما أنه بابا المودة مع المسلمين ومسالمتهم.
أما المَعْلَم الثالث بين معالم شخصيته فهو هذا التوجُّه الجارف لاستعادة العلاقة مع المسلمين، وليس فقط مع المسلمين؛ بل ومع الإسلام. فمجمع الفاتيكان الثاني (1962 - 1965) تحدث غالباً عن المسلمين وأنهم يعبدون الله، وينتسبون إلى إبراهيم، ويشاركون في كثير من العقائد المسيحية «الصحيحة» دون أن يعوا ذلك أحياناً! ولذلك يمكن لهم النجاة (أو الخلاص). أما البابا فيتحدث عن المسلمين وإيمانهم ومودتهم، لكنه يتحدث أيضاً عن الإسلام باعتباره دينَ إيمانٍ وسلامٍ ورحمة لبني البشر. ويستشهد على ذلك بالحضارات الكبرى التي أقامها المسلمون، وعيشهم مع الآخرين في أوروبا وغيرها بسلامٍ ومحبة. أما حروب الماضي، وأحداث الإرهاب في الحاضر فينبغي أن تصبح دروساً نفيد منها، وألا نظلَّ أسرى الذاكرة الجريحة.
قال البابا ذلك مجتمعاً ومتفرقاً بين العامين 2013 و2018، وفي زياراته للبلدان الإسلامية، وفي الزيارات المتبادلة بينه وبين الشيخ أحمد الطيب. و الشيخ أحمد الطيب ناضل بكل قواه طوال السنوات الخمس الماضية لمكافحة التطرف والإرهاب. وأحدث تحولات كبرى في مسار الأزهر، وهو المؤسسة الهائلة الضخامة والتأثير في داخل مصر، وفي سائر أنحاء العالم الإسلامي من خلال فروعها المنتشرة في كل مكان. وقد كان من ضمن نضاله إقامته علاقات متميزة مع البابا فرنسيس (بعد قطيعة مع بنديكتوس، البابا السابق)، ومع أسقف كنتربري ومجلس الكنائس العالمي. وقبل ذلك: أقام شيخ الأزهر علاقة متميزة بالأقباط المصريين من خلال «بيت العائلة المصرية». وهو شخصية لا تخلو من تحفظٍ ومحافظة (وهو أمرٌ يُحسب له لا عليه عند عامة المسلمين)، لكنه مؤمنٌ أشدَّ الإيمان بالسلام بين الأديان، وأنه يكون عليها بالتعاون والتضامن أن تتدخل للإسهام في حلّ مشكلات العالم ونزاعاته وحروبه في المنطقتين العربية والإسلامية بالذات. وبعد عدة إعلاناتٍ وبياناتٍ ونُضج العلاقة الشخصية بين الرجلين، ظهرت فكرة «وثيقة الأخوة الإنسانية» التي لا تخلو بنودها من شبهٍ بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ لكنها هنا قائمة على القيم الدينية والأخلاقية مثل الرحمة والمحبة والإنصاف وقبول الآخر ومعاملة البر والقسط، وتقصُّد السلام والأخوة بكل سبيل.
ولنصل أخيراً، وليس آخِراً، إلى إنجاز دولة الإمارات. فقد أعلنت عن عام 2019 باعتباره عام التسامح، وكانت قد خططت للدعوة الكبرى منذ زمن، وإنما كان الأمر ينتظر الانتهاء من كتابة «وثيقة الأخوة الإنسانية». وقد كان المعهود أن يدعونا المسيحيون إلى الحوار، فصرنا نحن الداعين. ثم إنه مع هذا البابا لا تشعر أنك تتحدث إليه مبرراً أو معتذراً عن أفعال الإرهابيين؛ بل تلتقي المرجعيتان الدينيتان الكبريان على قدم المساواة. الاستقبال متشابه. والوثيقة كتبها الطرفان. وتقديمها في خطابين متمايزين حتى في الروحية اعتراف بالتعدد الذي لا يمنع التعارف والشراكة. ورئيس الحكومة الاتحادية وولي عهد أبوظبي يصاحبان هذه الرسوم الدالة بجائزة للأخوة للرجلين، وبكنيسة ومسجدٍ على اسميهما، وبقداسٍ هائل للعائشين من المسيحيين على أرض الإمارات يترأسه البابا. وبتأكيد عراقة المسيحية في الجزيرة وفي الإمارات. كما تأكيد التعددية الدينية في الدولة، وحريات العقيدة والعبادة. وبذلك تصبح دولة الإمارات نموذجاً للعيش المشترك على مستوى العالم.
لكل الذي ذكرته عن السياقات والمصاحبات، وبالذات عن شخصية البابا، وشخصية شيخ الأزهر، وشخصية دولة الإمارات منذ الشيخ زايد المؤسِّس؛ أعتبر أن هذا اللقاء يشكل لحظة فارقة في علاقات المسيحية بالإسلام، ورؤية العالم لدولة الإمارات في طبيعتها وأدوارها وإنجازاتها الحضارية.