ما من زمن لحزب الله أفضل من هذه الحقبة التي يعيشها حالياً في لبنان. وعلى الرغم من التواضع والزهد، الذي أظهره الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، برفضه تسمية الحكومة بـ"حكومة حزب الله" إلا أن الواقع يبدو مختلفاً. رسم حزب الله ملامح المرحلة وصورتها، لبنانياً وإقليمياً. وحقق ما يريده في السياسة. الحكومة بثلثيها تقريباً موالية له، طبعاً عندما تقتضي الحاجة إلى قرار حاسم بالأمور المصيرية. والاتجاه السياسي، في الملفات الأساسية، ستكون وفق إرادته ووجهته، وبالأخص في ملف العلاقة مع سوريا، وإعادة تجديدها، بالإضافة إلى ملف اللاجئين السوريين.
"انتصار المحور" والحكومة
يغوص حزب الله في قلب "المعارك" ما بين الحروب. وهو التعبير الذي يختاره في هذه المرحلة، للتأكيد على استبعاده لأي حرب محتملة مع العدو الإسرائيلي. إذ أن الضربات التي يشنهّا الإسرائيليون في سوريا، لن تتطور إلى معركة كبرى، فالإسرائيليون يخضعون لضوابط روسية بعدم استهداف قوات إيرانية أو حزب اللهية بشكل مباشر. الضربات تأتي وحسب بشكل مرّكز على بعض المنصات أو المواقع، التي يجد الإسرائيليون أنها قد تكون أماكن لتخزين الصواريخ الدقيقة أو بعيدة المدى، والتي يمكن أن يتم نقلها إلى لبنان. وبالتالي، قواعد الاشتباك لا تزال على حالها، المحكومة بشرط إذا استهدف الإسرائيلون قوات بشرية للحزب أو لإيران، فإن الرد سيكون جاهزاً، وفي حال جرى استهداف الأراضي اللبنانية، فإن الردّ أيضاً سيكون جاهزاً.
بينما يثبّت الحزب هذه القواعد، وينطلق من انتصار محوره على حساب المحور الآخر، يستعدّ للدخول بفاعلية في العمل الحكومي. الخطّة واضحة لديه: إثبات الإنجاز التي ينتظره اللبنانيون في ملف وزارة الصحّة، والتي أصبح لدى الحزب رؤية شاملة لتحقيقها في ملف الإستشفاء والدواء. وكذلك في ملفيّ الكهرباء ومجمل الوضع الإقتصادي. وهذه ستكون فرصة لإثبات دور الحكومة وفعاليتها في هذه المرحلة.
البند السوري
في السياسة، يصرّ حزب الله على الاستمرار بسياسة التهدئة، وصفر مشاكل في الداخل. مصلحته تبريد الأجواء، وإنهاء ضجيج الانقسامات السياسية الداخلية. وطالما بقي الهدوء على حاله، فإن الحزب قادر على الاستمرار بالإمساك بالعنوان الأساسي للسياسة في البلد. والأكيد هنا أن الحزب لن يتنازل عن بند سيكون مطروحاً من قبل وزرائه في كل جلسة لمجلس الوزراء، وهو ضرورة إعادة العلاقة مع سوريا، وتعزيز هذه العلاقة والتنسيق في مختلف المجالات. هنا لا يجد الحزب معارضة حقيقية من خصومه، خصوصاً أن الحكومة السابقة، وصلت إلى صيغة تنسيق محددة مع النظام السوري، سواء من قبل مبعوث رئيس الجمهورية، أو من خلال زيارات العديد من الوزراء إلى هناك. وهذا يعني أن هذا النوع من الزيارات سيزداد في المرحلة المقبلة. يمكن اختصار العنوان السياسي للحكومة الحالية، بمعزل عن الإهتمامات الاقتصادية والمالية والمؤتمرات الدولية، أنه سيكون حكومة العمل على إعادة العلاقة مع النظام السوري.
الإنتصار الأساسي الذي كرّسه حزب الله محلياً، هو تحوّله إلى مرجعية كبرى وحكم يتعالى فوق الجميع، سلطة "معنوية" تُحاسِب ولا تُحاسَب. التيار الوطني الحرّ، جدد العلاقة الاستراتيجية مع الحزب، بعد اختلافات تفصيلية متعددة. لكن المواقف التي اتخذها وزير الخارجية جبران باسيل في الفترة الأخيرة، كانت كبيرة جداً بالنسبة إلى الحزب، وأعادت العلاقة معه إلى استراتيجيتها، مقابل أن يتفّهم الحزب خطابات باسيل التي تحاكي جمهوره وبيئته. والأهم، أن باسيل الساعي إلى كسب ود الحزب ودعمه، يؤّمن من خلال اتساع رقعة انتشاره المسيحي الغطاء الذي يريده الحزب محلياً. وهذه لم يغفل باسيل الحديث عنها، لدى كلامه عن الانتفاع المشترك من العلاقة بين الطرفين.
ضعف الخصوم
أما تيار المستقبل، فبنظر حزب الله، أصبح مطواعاً أكثر من أي وقت مضى. إذ أن الرئيس سعد الحريري بات موقناً بألّا إمكانية لوصوله إلى رئاسة الحكومة من دون موافقة الحزب. هذا ما يمنح الحزب فرصة تقرير الوجهة السياسية للبلاد، والحصول على التنازلات من قبل الحريري، خصوصاً أن ثمة معادلة يتم التداول فيها بالكواليس، بأن الحريري قادر على الإحتفاظ برئاسة الحكومة انطلاقاً من تحالفه مع باسيل والحزب، حتى ولو تضاءل عدد كتلته النيابية إلى خمسة نواب وحسب. وهذا يعني أن "المستقبل" لم يعد تلك العقبة الأساسية والقادرة على خلق التوازن بمواجهة الحزب في المعادلة اللبنانية. أي ما من معارضة جدّية بعد اليوم لتوجهات الحزب.
القوات اللبنانية، وفي ظل غياب مشروع سياسي واضح (عابر للطوائف) يقوم على المواجهة مع حزب الله، ويتمتع بقوة قادرة على فرض التوازن بوجه الطائفة الشيعية، لن تكون قادرة على خوض تلك المعركة وحدها، خصوصاً أنه لا يوجد توجه سياسي إقليمي أو دولي واضح للمواجهة. وبالتالي، تحافظ القوات على مواقفها وثوابتها، من دون الدخول في حملات شرسة بوجه حزب الله.
أما الحزب التقدّمي الاشتراكي، فهو أيضاً لن يكون قادراً على المواجهة وحيداً، في ظل ابتعاد تيار المستقبل عنه والتقارب بينه وبين التيار الوطني الحرّ وحزب الله. وكان جنبلاط قد حاول التلويح بحركة اعتراضية، لكنه اصطدم بجو إقليمي ودولي ومحلّي، غير جاهز، وغير مستعدّ، لأي خطوة من هذا النوع. فكل المواقف الدولية التي تعتبر أن حكومة لبنان "تحت المراقبة" بسبب دخول حزب الله بقوة إليها، لا تبدو أنها مواقف جدية. وبعض السفراء يؤيدون المواقف الاعتراضية على ما جرى، لكنهم أيضاً يؤكدون حرصهم على الاستقرار، وأن ليس هناك توجهات تصعيدية.
ساحة "التواصل"
هذا الواقع الذي أرساه حزب الله في تفكيك تحالف خصومه، وزرع الشقاق في ما بينهم، وتحقيقه الخروقات في صفوفهم، وضعه في موقع المنتصر. وأكثر من ذلك، يعتبر الحزب أن لبنان الآن هو ساحة "تواصل" دولي، وليس ساحة "مواجهة"، لأسباب عديدة، أولها أمن إسرائيل، وثانيها اللاجئين السوريين. وهذه إحدى أوراق القوة التي يمتلكها الحزب، لعدم إقدام أي دولة خارجية على خيارات متهورة، سواء على صعيد العقوبات على الدولة أو مؤسساتها، أو عبر حراك تصعيدي سياسي أو عسكري. وبالتالي، فإن واشنطن لن تلجأ إلى اتخاذ إجراءات بحق الحكومة اللبنانية، أو وقف الدعم لها. لأن أي حركة من هذا النوع، ستؤدي إلى تسليم لبنان أكثر إلى حزب الله. وقد ينعكس ذلك سلباً على التركيبة السياسية أو على وضع اللاجئين أو على أمن إسرائيل. هذا "الستاتيكو" سيبقى مستمراً في المدى المنظور. وأي خطأ في الحسابات، أو تغيير جوهري في التوجهات، قد يؤدي إلى احتمالات متعددة لا تغيب عنها الحرب، على الرغم من أنها - منطقياً - خيار مستبعد.