الإحتفاء بالرواية قد غذّى رغبة عددٍ من الأُدباء الذين عرفهمُ الوسط الأدبي بوصفهم شعراءَ لمواكبة هذا التطوّر، وبدأوا كتابة الرواية كأنَّ ما أنجزوه سابقاً في الشعر أو في أيِّ مجال آخر لا يصلح للمرحلة التي طغت عليها الروايةُ ولا يضعهم على منصّة النجومية.
الجدل
بالطبع تتباينُ الآراء بشأنِ هذا التسابق والإقبال على تسجيل الأسماء في ديوان السرد، إذ يفسّرُ البعض الأمر وفقاً لطبيعة العصر فإنَّ الرواية فنٌّ يلبّي نهم الإستهلاك لدى القارئ الذي ينساق وراء إعلانات وحملات الترويج المكثفّة على شاشات التفلزة وفي منصّات التواصل الإجتماعي، ويقاربُ الكاتبُ والروائي التونسي هذه الظاهرة في مقدّمة كتابه المعنون بـ«فنّ الرواية» من المنطلق النفسي، فيرى أنَّ الرواية تلعبُ دوراً تعويضياً بالنسبة للفرد العربي الذي يعاني من واقع مُحبط ويحيلنا في سياق تحليله إلى رأي الكاتب البريطاني كولون ويلسن، فالأخير يرى أنَّ صنعة الرواية «واحدة من أكبر التعويضات الممتعة التي إستطاع الإنسان أن يبتكرَها»، وثمّة من يعزو تَصَدُّر الرواية للمشهد الثقافي إلى ما يجدهُ الفردُ في هذا العالم المُتخيَّل من العزاء، كما لا تمانع فئة من المُتابعين إختيار بعض العناوين الروائية بإعتبارها وصفة للأزمات النفسية.
وسبق لمارسيل بروست أن راودتهُ هذه الفكرة حيثُ أراد مُحاكاة والده الطبيب ومُعالجة المرضى بالسرد الروائي بدلاً من العقاقير، وتلتفتُ الكاتبة والروائية لطفية الدليمي في مقدمتها لـ«تطور الرواية الحديثة» إلى هذا الجانب البراغماتي للرواية التي توفّرُ علاجاً وافياً للإضطرابات الذهنية، إذ تفوق فوائدها ما يجنيه المريضُ من عقار «بروزاك».
رهاناتُ الإبداع
بالإستناد إلى ما ذُكِرَ آنفاً، نتفهّمُ بأنَّ الجدل حول خصائص فنّ الرواية قد إحتدمَ مع تشعّب ثيماتهِ وتنوّع أساليبه التعبيرية. ولكن ماذا عن هيكلية الرواية والخيارات المُتاحة في محترفِ صناعتها والصيغِ المتوافرة لترتيب المادة؟
لأنَّ الموضوعات كما يقولُ ماريو بارغا يوسا، لا تفترضُ مسبقاً أيّ شيءٍ، لأنّ إستخدام الروائي وعملية تحويل تلك الموضوعات إلى واقع من كلمات مُنظمة وفق ترتيب مُعيّن عاملٌ أساسي لإستساغة الموضوع أو عدم إستساغته في النصّ الروائي.
مراجعة وتفصيل وتكرار
رواية «الشيخ والبحر» كانت أكثر من ألف صفحةٍ كما يذكرُ كاتبها «إرنست همنغواي»، وتضمّنت جميع شخصيات القرية وتفاصيل عن نمط المعيشة قبل إستبعاد كلّ ما لا يُضيفُ إلى تشكيلة الرواية ولايخدمُ خصوصية خطابها، إلى إعادة كتابة الصفحة الأخيرة من رواية «وداعاً للسلاح» 39 مرةً.
وهذا يعني أنّ النص الروائي يتطلّبُ معاينة كلّ أجزائه وتفصيل قُماشته وفقاً لبرنامج مُحكَم. لذلك، فإنَّ عدداً من المبدعين يؤكّدون على أهمية الإنضباط والعمل الدؤوب إلى جانب دور الموهبة في كتابة الرواية.
ويرفضُ وليام فوكنر وجود وصفة معيّنة تمكّنُ المرءَ من كتابة النصوص الإبداعية. ويعترفُ مؤلف «راتب الجندي» بأنَّه قد كتبَ رائعته «الصخب والعنف» 5 مرات.
مراج القارئ
هنا ما يجدرُ بالإشارة حول خيارات كتابة النص الروائي هو رأي الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، فمن المعلوم أنَّ صاحب «السرّ الحارق» هو من الكتّاب الذين نحتوا أسلوباً خاصاً، لذا ما أن يتابعُ القارئُ أحد أعماله حتى يتآلف مع عالمه الروائي ويستأنس بلغته وحبكاته المشوّقة.
ويُذكر أنَّ زفايغ كان من أكثر المؤلّفين ترجمة في العالم، وحوِّلت معظم رواياته إلى أفلام سينمائية. وتتميزُ نصوص صاحب «الخوف» بالإنسيابية والسلاسة في الإنتقال بين الوحدات وتنظيمها على خطّ متماسك، ويتحاشى المؤلف الحشو والإطناب في مواده الإبداعية.
ويقدمُ زفايغ في مذكراته «عالم الأمس» رؤيته حول تقنيات كتابة الرواية، موضحاً السرّ وراء فرادة الصياغة ورشاقة الأُسلوب، إذ يعتبر بأنه مدين بنجاح كتبه لصفة في شخصيته وهي عدم تحمّله قراءة كلّ زيادة في النصّ، ولا تعجبه الزخارف في التعبير وما يُعيقُ نموّ الرواية أو السيرة أو المناقشة الفكرية.
فالبتالي فهو يكتبُ بمزاج القارئ الذي يرهقه ما يصفه بالصفحات الرملية. عليه فإنَّ روايات ستيفان زفايغ تستمدُ خصوصيّتها من «المنهج المنتظم للحذف المطّرد لكلّ التوقّفات والإستهلالات الزائدة عن الحاجة»، ولا يصعبُ عليه الإستغناء عن 800 صفحة من أصل ألف صفحة مخطوطة على حدّ قوله. وهذا ما يذكّرنا بكلام غوستاف فلوبير بأنّ «سلّة المهملات أفضل أصدقاء الكاتب».
وعلى ضوء هذه الآراء السالفة الذكر، يتبيّنُ بأنَّ تأثيث العالم الروائي ورسم طريقة مميّزة في الكتابة يفرضُ إدراك المؤلفِ لحساسية المُتلقّي، هذا إضافة إلى تبصّره بما يحافظُ على ترابط أجزاء نصّه وحذف ما يُثقِله من الإسترجاعات والإسهاب في الوصف والتكرار.
وهنا، السؤال يطرح نفسه، كيف يمكن إقناع كتّاب الروايات المُنتفخة أو البدينة التي لا تخرج عن ثيمات مُستهلكة وترى في صفحاتها مشاهد متكرّرة، بأنَّ الإختصار هو وجه آخر للإبداع وأنّ الروايات المبنية على الإيجاز أصعب من كتابة الرواية الطويلة على حدّ قول الناقد «سعيد يقطين».