في اليوم الثاني لزيارته التاريخية إلى دولة الامارات، أكد قداسة البابا فرنسيس على حماية «الحرية الدينية» في الشرق الاوسط، ووقف الحروب خصوصاً في اليمن.
كلام قداسة البابا جاء في كلمته في «مؤتمر الأخوّة الإنسانية» حول الأديان في صرح الشيخ زايد المؤسّس في أبوظبي. والذي تخلله توقيع البابا وشيخ الأزهر أحمد الطيب «وثيقة الأخوّة الإنسانية»، الداعية إلى «مكافحة التطرّف»، قبل أن يتعانقا ويتبادلا القبل في مشهد مهيب جَسّد معاني التسامح، واحترام الآخر، والتعايش.
إستهلّ الحبر الأعظم خطابه بعبارة «السلام عليكم» بالعربية، داعياً إلى حماية الحرية الدينية في منطقة شهدت تصاعداً في العنف والتعصب في السنوات الاخيرة، مع بروز جماعات متطرفة وفي مقدّمها تنظيم «داعش».
واعتبر انّ استعمال اسم الله «لتبرير الكراهية» هو «تدنيس خطير» لاسمه، مشدّداً على أنّ العنف لا يمكن تبريره دينياً.
وطالبَ بحق المواطنة نفسه لجميع سكان المنطقة، قائلاً: «أتمنّى أن تبصر النور، ليس هنا فقط بل في كلّ منطقة الشرق الأوسط الحبيبة والحيويّة، فرصٌ ملموسة للقاء: مجتمعاتٌ يتمتّع فيها أشخاص ينتمون إلى ديانات مختلفة بحقّ المواطنة نفسه».
في موازاة ذلك، كرّر البابا دعوته إلى وقف الحروب في اليمن وليبيا وسوريا والعراق، ورأى انّ «سباق التسلّح، وتمديد مناطق النفوذ، والسياسات العدائيّة، على حساب الآخرين، لن تؤدّي أبداً إلى الاستقرار». كما دعا إلى أن «نلتزم معاً ضدّ تقييم العلاقات في وزنها الاقتصادي، وضدّ التسلّح على الحدود وبناء الجدران وخنق أصوات الفقراء».
شيخ الأزهر
إلى ذلك اعتبر شيخ الازهر، في كلمته في المؤتمر، أنّ «وثيقة الأخوة الإنسانية نداء لضمير الإنسان الحي لنَبذ العنف البغيض واحتقار التطرّف الأعمى». ورأى «أنّ أزمة العالم هذه الأيام تتمثّل في غياب الضمير الإنساني».
وقال: «الأديان الإلهيَّة، بريئة كل البراءة من الحركات والجماعات المسلَّحة التي تُسمَّى حديثاً بـ «الإرهاب»، كائناً ما كان دينها أو عقيدتها أو فكرها، أو ضحاياها، أو الأرض التي تُمارِس عليها جرائمَها المنكرة... فهؤلاء قتلة وسفاكون للدّماء، ومعتدون على الله ورسالاته... وعلى المسؤولين شرقاً وغرباً أن يقوموا بواجبهم في تَعقُّب هؤلاء المعتدين والتصدّي لهم بكل قوة، وحماية أرواح الناس وعقائدهم ودور عباداتهم من جرائمهم». وأشار الى انّ «المسيحية احتضنت الإسلام عندما كان ديناً وليداً».
واكد أنّ المسيحيين جزء من هذه الأُمّة، وهم مواطنون ولسوا أقليَّة. وأضاف متوجّهاً الى المسيحيين في الشرق: «أرجوكم أن تتخلصوا من ثقافة مصطلح الأقليّة الكريه، فأنتم مواطنون كاملو الحقوق والواجبات، واعلموا أنّ وحدتنا هي الصخرة الوحيدة التي تتحطّم عليها المؤامرات التي لا تفَرّق بين مسيحي ومسلم إذا جد الجد». ودعا المسلمين في الشرق الأوسط إلى حماية الطوائف المسيحية.
وتوجّه الى المسلمين في الغرب قائلاً: «إندمجوا في مجتمعاتكم اندماجاً إيجابيّاً، تحافظون فيها على هويتكم الدينيّة كما تحافظون على احترام قوانين هذه المجتمعات، واعلموا أنّ أمن هذه المجتمعات مسؤولية شرعية، وأمانة دينية في رقابكم تُسألون عنها أمام الله تعالى».
وأضاف: «سأعمل مع البابا فرنسيس من أجل حماية المجتمعات».
الوثيقة
من جهتها أكدت «وثيقة الأخوّة الإنسانية» أنّ «العلاقة بين الشرق والغرب هي ضرورة قصوى لكليهما، لا يمكن الاستعاضة عنها أو تجاهلها، ليغتني كلاهما من الحضارة الأخرى عبر التبادل وحوار الثقافات».
وورد في نَص الوثيقة: «نطالب أنفسنا وقادة العالم، وصنّاع السياسات الدولية والاقتصاد العالمي، بالعمل جدياً على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فوراً لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهده العالم حالياً من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي».
وأضافت: «إنّ التاريخ يؤكد أنّ التطرّف الديني والقومي والتعصّب قد أثمرَ في العالم، سواء في الغرب أو الشرق، ما يمكن أن نطلق عليه بوادر «حرب عالمية ثالثة على أجزاء»، بدأت تكشف عن وجهها القبيح في كثير من الأماكن، وعن أوضاع مأساوية لا يعرف - على وجه الدقة - عدد من خَلّفتهم من قتلى وأرامل وثكالى وأيتام، وهناك أماكن أخرى يجري إعدادها لمزيد من الانفجار وتكديس السلاح وجَلب الذخائر، في وضع عالمي تسيطر عليه الضبابية وخيبة الأمل والخوف من المستقبل، وتتحكّم فيه المصالح المادية الضيقة».
ودعت الوثيقة «للمصالحة والتآخي بين جميع المؤمنين بالأديان، بل بين المؤمنين وغير المؤمنين، وكل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة».
علماً أنّ «مؤتمر الأخوة الانسانية» سعى إلى التصدّي للتطرف الفكري وسلبياته، وتعزيز العلاقات الإنسانية، وإرساء قواعد جديدة لها بين أهل الأديان والعقائد المتعددة تقوم على احترام الاختلاف.
البطريرك الراعي
وقال البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، خلال المؤتمر، انّ «الدين، من جهته، يشكّل تحدّياً إيجابياً وسلبياً. التحدّي الإيجابي هو أنّ الأديان لا تصنع الحروب، بل أتباعها يصنعونها لجهلهم مفهوم الدين أو لتسييسه من أجل غايات خاصة. والتحدّي السلبي هو أنّ مجموعات أو منظمات إرهابية مسيّسة ترتكب العنف والقتل والتطهير العرقي باسم الله الواحد الوحيد، علماً أنّ «إسم الله الواحد الوحيد هو إسم السلام والآمر بالسلام»، على ما كتب القديس البابا يوحنا بولس الثاني. بسبب هذا التحدّي المزدوج يمكن للدين أن يقود إلى الأحسن إذا كان مشروع قداسة، أو إلى الأبشع إذا كان مشروع تسلّط».
ورأى أنّ «الاختلاف في الدين والثقافة والرأي لا يعني عداوة. بل يُغني في النظرة إلى الأمور، ويساعد في البحث عن الحقيقة التي تجمع وتحرّر. أما التنوّع الديني والثقافي والعرقي فهو ضروري للتكامل والاغتناء المتبادل، ويساعد على الإقرار بأنّ الله سبحانه يعمل بشكل غير مدرَك في داخل كل خَلق من خلائقه. ألسنا نقرأ في القرآن الكريم: «لو شاء ربّك لجعلكم أمّة واحدة؟».
المطران عودة
بدوره، ألقى متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده كلمة في «مؤتمر الأخوة الإنسانية» في أبوظبي، قال فيها: «إذا كانت الديانات الثلاث الأساسية في العالم تدعى سماوية، هذا يعني أنّ موطننا هو الملكوت، ويجب أن نعمل منذ الآن على إحلال هذا الملكوت في قلوب الجميع.
السياسة والتعصّب واستثمار المشاعر الدينية في إثارة العصبيات والعزف على وتر التشدّد والأصولية الدينية كلما أراد مسؤول الوصول إلى مآربه، لا تساعد في جعل الأرض تذوقاً مسبقاً للملكوت. علينا جميعاً بث روح المحبة والتآخي، والإسترشاد بمبادئ الدين والأخلاق مع عدم استغلال الدين في أمور السياسة. مطلوب أيضاً أن نرسي مبادئ الحوار الحقيقي، أي الصراحة والصدق والإنفتاح والشفافية، وهذه لا تتحقّق إلّا بالمحبة وتجاوز «الأنا»، ونبذ المصالح الشخصية، واحترام الآخر وصون حريته وكرامته، والتمني له ما يتمنى للذات».
إستقبال قداسة البابا
وقبَيل حضور المؤتمر الديني، التقى قداسة البابا فرنسيس رأس الكنيسة الكاثوليكية التي يبلغ عدد أتباعها نحو 1,3 مليار شخص في العالم، ولي عهد أبوظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ورئيس حكومة الإمارات حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في قصر الرئاسة في أبوظبي.
وأكدت وكالة أنباء الإمارات (وام) أنّ الجانبين استعرضا خلال اللقاء «آفاق التعاون المشترك وجهودهما في ترسيخ قيَم التآخي والحوار والتعايش بين الشعوب التي تحثّ عليها جميع الأديان في سبيل تحقيق الأمن والاستقرار والسلام لدول المنطقة والعالم... إضافة إلى تعزيز الانتماء الإنساني الحضاري والفكر المُستنير ومواجهة الأفكار المتطرفة والكراهية الدينية».
وقد أقيم لقداسة البابا استقبال رسمي حافل لدى وصوله إلى القصر الرئاسي في أبوظبي بسيارة متواضعة من طراز «كيا»، إذ أطلقت 21 طلقة مدفعية، بينما حلّقت طائرات انبعثَ منها دخان أصفر وأبيض للاشارة الى علم الفاتيكان الذي وضع في الممرّات الرئيسة داخل القصر.
وصافحَ الحبر الأعظم الشيخ محمد بن زايد والشيخ محمد بن راشد وعشرات المسؤولين الاماراتيين الآخرين، وتوقّف أمام فرقة موسيقية عسكرية أدّت معزوفة لمناسبة وصوله إلى القصر.
وقدّم البابا هدية إلى الشيخ محمد بن زايد هي عبارة عن ميدالية تؤرّخ اللقاء بين القدّيس فرنسيس الأسيزي والسلطان الملك الكامل في العام 1219، وشكره في سجل التشريفات على «حرارة الاستقبال»، متمنياً للامارات «السلام والوحدة الاخوية». بينما قدّم له المسؤول الاماراتي مُستنداً يعود إلى العام 1963 ويحمل موافقة على إنشاء أول كنيسة في الامارات.
قداس اليوم
وبينما تسمح الإمارات بممارسة الشعائر الدينية داخل الكنائس، ستشهد اليوم وللمرّة الأولى قدّاساً في الهواء الطلق، تتوقّع السلطات الإماراتية أن يشارك فيه نحو 135 ألف شخص في ملعب لكرة القدم. وسيحضر آلاف آخرون القداس من خارج الملعب. وسيصل البابا، إلى موقع الحدث بسيارته.
الإمارات
الجدير بالذكر أنّ الإمارات بلد يتمتع باستقرار أمني كبير، ويعتبر رأس حربة في مواجهة التطرّف الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين. وهو عضو في التحالف الدولي لمواجهة المتطرّفين في سوريا منذ أيلول 2014.
وتتبع الامارات، التي يشكل الاجانب نحو 85 في المئة من مجموع سكانها، إسلاماً محافظاً، لكنّها تفرض رقابة على الخطب في المساجد وعلى النشاطات الدينية فيها لمنع تحولّها الى منابر للتطرّف.
ويعيش نحو مليون كاثوليكي، جميعهم من الأجانب، في الإمارات حيث توجد 8 كنائس كاثوليكية، وهو العدد الأكبر مقارنة مع الدول الأخرى المجاورة (4 في كل من الكويت وسلطنة عمان واليمن، وواحدة في البحرين، وواحدة في قطر). ويضاف الى ذلك انّ الامارات تقدّم نفسها على أنّها مكان للتسامح بين الأديان المختلفة.