العاشرة ليل أمس بتوقيت دولة الامارات العربية المتحدة، الثامنة بتوقيت بيروت، حطت طائرة البابا فرنسيس في مطار أبو ظبي الدولي، فبات أول حبر أعظم في التاريخ تطأ قدماه شبه الجزيرة العربية، مهد الاسلام، مدشناً زيارة تاريخية يأمل خلالها في فتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين الأديان. وهو جاء الى الامارات رسولاً للأخوة والحوار، إذ غرد قبل مغادرته الفاتيكان بساعة: “في توجهي إلى الإمارات العربية المتحدة، أذهب إلى هذا البلد كأخ كي نكتب معاً صفحة حوار وللسير معا على دروب السلام. صلوا من أجلي!”.
وبدت الحماسة واضحة على وجه البابا الذي صافح مبتسماً مستقبليه في المطار، وفي مقدمهم ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، قبل أن يقدم له أولاد باقات من الزهور ترحيباً به. وانضم اليهما شيخ الأزهر أحمد الطيب في مراسم استقبال سريعة، ركب بعدها البابا والطيب سيارة واحدة وغادرا المطار معاً.
وتقام اليوم مراسم استقبال رسمية للبابا، الذي سيجتمع لاحقاً مع شيخ الأزهر. كما يزور البابا مسجد الشيخ زايد، وضريح المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، على أن يتوج زيارته بقداس الثلثاء يتوقع أن يحضره أكثر من 120 ألف شخص.
ولكن قبل وصول “الضيف الكبير”، كان كل شيء في أبو ظبي يدل على تأهب استثنائي. شوارع أبوظبي ازدانت بأعلام الامارات والفاتيكان، والصحف الاماراتية خصصت صفحات للحديث عن الزيارة. ونشرت صحيفة “الاتحاد” الاماراتية على غلاف صفحتها الاولى صورة كبيرة للبابا والشيخ محمد بن زايد يتصافحان مع خلفية لمسجد الشيخ زايد.
وليس الاهتمام الذي يوليه الفاتيكان للزيارة بالقليل أيضاً، خصوصاً أن الوفد الاعلامي الذي وصل مع البابا ضم عشرات الصحافيين والاعلاميين الذين حضروا ليلاً بتجهيزاتهم الى أبوظبي.
مؤتمر “الاخوة الانسانية”
أما الحدث الأبرز الذي يتخلل الزيارة فهو مؤتمر “الاخوة الانسانية” الذي يستضيف أكثر من 700 شخصية، وتحول يومه الاول أمس منصة للدعوة الى التسامح والاخوة، بعدما تعاقبت شخصيات من 21 ديانة ومعتقد على الدعوة الى نبذ التطرف ومد الجسور بين الشرق والغرب.
بطاركة ومطارنة، كهنة وقساوسة، شيوخ وحاخامون، أكاديميون وباحثون جاؤوا من جهات العالم الاربع، بينهم المسيحي والمسلم واليهودي والبوذي والشنتو والهندوسي. وفي مداخلات اليوم الأول، ركز المتحدثون على منطلقات الاخوة الانسانية، ودور المؤسسات الدينية والمنظمات الدولية والانسانية في تحقيق الاخوة، وكيف يمكن أن تجد طريقها بين الشرق والغرب، فيما قدم آخرون شهادات عن تجارب دولهم مع التسامح والاخوة. ولعل الرسالة الأقوى التي وجهها هؤلاء تكمن في أن اللقاء ممكن على رغم الاختلاف، وأن الدين الذي كان مصدراً لنزاعات وحروب دموية عبر التاريخ، قد تغير، وصار عدد كبير من رموزه لاعبين رئيسيين في العالم ملتزمين تحقيق التسامح وصولاً الى السلام.
وأعطى وزير التسامح الإماراتي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان اشارة الانطلاق للمؤتمر، قائلاً إن للتسامح والأخوة الإنسانية القدرة على حل معظم مشاكل العالم، مشيراً إلى أن المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية يرسخ قيم التسامح في العالم، فهو حدث متعدد الثقافة يشجع على التآخي والحوار.
ورأى رئيس المعهد العربي-الاميركي جيمس زغبي أن المؤتمر تاريخي لا لأنه يجمع البابا وشيخ الأزهر أحمد الطيب فحسب، وإنما لكونه يشكل منصة لنحو 700 شخصية من ديانات عدة.
و تحدث رئيس كهنة معبد سواميناريان سانساتا في الهند عن تجربة الهندوس مع الاخوة في الإمارات، حيث “منح بلد مسلم الهندوس أرضاً لبناء معبد”، معتيراً أن “هذه الدولة هي مثال لكل دول العالم كونها ترجمت ما نتحدث به اليوم إلى واقع، فهي موطن لأكثر من 200 جنسية من مختلف الأعراق والأديان، فالتسامح والقيم الإنسانية ليست عناوين فقط بل أفعال”.
ولم يفت عضو مجلس حكماء المسلمين الدكتور علي الامين التذكير بالصراعات التي نشبت باسم الدين، الا أنه رفض تحميل الأديان مسؤوليتها، ملاحظاً أن محركها الحقيقي هو الطمع بالسلطة.
وعلى هامش “مؤتمر الاخوة”، رأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، قداسا احتفاليا للجالية اللبنانية، في كاتدرائية مار يوسف، بمشاركة بطريرك أنطاكية والأسكندرية وسائر المشرق للروم الكاثوليك مار يوسف العبسي الأول، المطران جوزف نفاع، كاهن الرعية الأب إيلي هاشم ولفيف من الكهنة، وفي حضور سفير لبنان في الإمارات فؤاد دندن والقنصل عساف ضومط. وحضر القداس نحو 1500 شخص، غالبيتهم من اللبنانيين المقيمين في الامارات.
الراعي: لا تهاجروا
وعلى متن الطائرة التي تقله الى أبو ظبي السبت، تحدث الراعي الى “النهار” عن الاهمية السياسية والدينية والمعنوية لزيارة البابا، وقال إنها رسالة الى مسيحيي المنطقة للتشبث بأرضهم وللمسلمين أيضاً.
و الراعي الذي أبدى مراراً في عظاته قلقه من هجرة المسيحيين، ناشد السوريين والعراقيين والفلسطينيين واللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، “عدم مغادرة أوطانهم والعيش معاً للحفاظ على مسيرة تاريخهم المشترك والثقافة التي بنوها أحدهم مع الآخر عبر التاريخ”، معتبراً أن “الرسالة الأهم في زيارة البابا تصب في هذا الاتجاه ونقول لسكان هذه المنطقة: حافظوا على وجودكم وتراثكم وواصلوا كتابة التاريخ معاً”.
وبالنسبة الى الراعي، يحتاج العالم الى “شهادة الاثنين، العالم الاسلامي بحاجة لشهادة المسلمين عن المسيحيين والعالم المسيحي أو الغربي يحتاج الى المسيحيين في هذا الشرق ليقول له حقيقة الاسلام”.
وبعد تزايد هجرة مسيحيي الشرق في السنوات الاخيرة، هل يعتقد ان زيارة البابا يمكن ان تشكل عامل طمأنة؟ أجاب بأن “الزيارة مهمة في هذا الشأن والنداءات أيضاً، ولكن هناك حاجة الى أكثر من ذلك. اذا لم يكن هناك استقرار ولم تتوقف الحروب ولم تنطلق المسيرة الاقتصادية لن يعود أحد، لا المسلم ولا المسيحي. زيارة البابا تكتسب أهمية على المستويات السياسية والأخلاقية والمعنوية والروحية، ولكن في المقابل على السلطات المدنية والسياسية العمل لتحقيق الاستقرار واطلاق الاقتصاد لكي يتمكن الناس من العيش. فحتى وقت السلم حصلت هجرات بسبب غياب السلم الاقتصادي”.
والى العامل الاقتصادي، يزيد البطريرك على أسباب الهجرة، صعود التيارات الراديكالية. وعلى هذا الصعيد، يشدد على وجوب توجيه نداء الى الدول الكبرى التي تسلح التنظيمات الارهابية وتدعمها بالمال وتقدم لها غطاء سياسياً لشن حروب باسم مشروع الشرق الأوسط الجديد، والفوضى البناءة، محذراً من ان “الارهاب عندما يفلت من عقاله لا يستطيع أحد أن يوقفه، وقد دفع ثمنه المسيحيون والمسلمون”.
وهل هو مطمئن على لبنان؟ أجاب: “اكيد، ونهنئ اللبنانيين بالحكومة ونتمنى لها انطلاقة سريعة لتعويض الأشهر التسعة التي ألحقت ضرراً كبيراً وخصوصاً بالاقتصاد”. وأقرّ بأن التحديات كبيرة “وخصوصاً الاقتصادية والمالية”.