أنهى سعد الحريري، في لحظة إعلان حكومته الجديدة، تاريخاً كبيراً من "النضال" السياسي، ابتدأه رفيق الحريري مع وليد جنبلاط، تجلى خصوصاً في انتخابات عام 2000، وتصلّب عند منعطف التجديد لإميل لحود خريف 2004، ليتعمد بالدم يوم 14 شباط 2005.
وليس سراً، أن جنبلاط كان هو من حمى موت رفيق الحريري من الهدر، وهو من جمع لبنان في قصر قريطم كي لا يخطف القتلة الجنازة، ويمحون آثار الجريمة.
وعلى هذه الواقعة، كانت الولادة السياسية لسعد الحريري، وكانت مسيرة 14 آذار وانتخابات 2005، ثم معركة كسر العظم بانتخابات 2009. إلى يوم قريب، كانت مسيرة هذا التحالف اللبناني العريض، بكل منعرجاته وانكساراته وعثراته، يشكل "مقاومة" لا يمكن تخطيها، دفاعاً عن الجمهورية وعن الطائف وعن الدستور وعن الدولة. بل إن هذا التحالف، وحتى في لحظة الهزائم، كان دوماً يصنع التوازن ويحفظ السياسة من الفاشيتين المحلية والإقليمية.
صحيح أن ثمة مقدمات لهذا "الانقلاب"، رأيناها في "التسوية" الرئاسية. لكن اليوم، يبدو أن خروج سعد الحريري التام عن الثوابت السياسية، يرسم تحولاً دراماتيكياً كبيراً له ارتدادات أوسع بكثير من انعطافة ميشال عون في "تفاهمه" مع حزب الله.
وعلى هذا، يمكن وصف ليلة الأحد 3 شباط 2019 أنها "البداية" الجديدة لوليد جنبلاط، لحظة خطرة لا يتصدى لها سوى من يملك خبرة مواجهة لحظة انتخاب لحود 1998، ومن يملك شجاعة مصالحة الجبل عام 2000، ومن يملك جرأة بعد ظهر 14 شباط 2005.. وربما، من هذه الليلة، ستولد "المعارضة" اللبنانية الجديدة.
"شو صاير فيك يا سعد؟"
قد يكون الموقف الذي اتخذه رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط متأخّر نسبياً. وقد يمثّل جرس انذار للمرحلة المقبلة. لكن الأكيد حالياً أن الأمور لن تعود إلى نصابها السابق، في مرحلة التلازم الاستراتيجي مع تيار المستقبل ومع الرئيس سعد الحريري.
مرّت العلاقة بمطبّات كثيرة، لكن الرجلين غالباً ما كانا يوازنانها ويصححّان مساراتها. اليوم، كأن أحدهم مزّق المعاهدة. في الأداء وفي النوايا وفي النتائج، تلقّى جنبلاط طعنة في الصميم من الحريري. طعنة بدأت بشائرها يوم التسوية الرئاسية. كان جنبلاط يعلم باكراً جنوح سعد الحريري نحو انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. وعلى طريقته، عمل جنبلاط على قراءة "الحبر السري" للتطورات التي ستدفع الحريري إلى هكذا خيار، يبدو انتحارياً في السياسة، وخصوصاً للطائفة السنية، وتحديداً لسعد الحريري.
حرص جنبلاط أن تُقرأ رسائله الضرورية المرسلة مراراً إلى سعد الحريري، والتي فيها الكثير من النصائح لرئيس التيار الأزرق. وفي الوقت نفسه، بدأ بسلسلة خطوات سياسية للدخول في التسوية الرئاسية، انتباهاً منه أن لا مفر منها تقريباً، نظراً لكونها نتاج تطورات إقليمية ودولية، إضافة إلى أنها منسجمة مع حسابات الحريري السياسية، وغير السياسية، التي تحتّم عليه العمل للعودة إلى رئاسة الحكومة مهما بلغت الأثمان.
تغاضى جنبلاط عن الشق غير السياسي، ومهّد الطريق أمام التسوية، لتحصين موقعه وحماية الجبل. بل أكثر من ذلك، الحرص على الالتقاء مع سعد الحريري من أجل تحصين ما تبقى من ثوابت.
كان جنبلاط يعلم انّها مهمة متعبة، ومرحلة شاقة. لكنه حاول دخولها آمناً، برفقة الحريري ووعوده. هذه الوعود بالذات، هي التي سرعان ما تبددت في مواقف عديدة واتفاقيات كثيرة، لم يكن آخرها قانون الانتخاب والانتخابات النيابية، وتلك الصرخة التي أطلقها جنبلاط ذات يوم من الشوف: "شو صاير فيك يا سعد الحريري، شو صاير فيك".
نظرية الانتقام!
ضُرب جنبلاط من بيت رفيقه، سياسياً ووجدانياً. في السابق، لطالما اعتبر أن الحريري لا يقصد الإساءة، ولا يمكن أن يكون على مقلب آخر، أو في خندق الخصوم. كان يجد المبررات ويقدّمها أمام المحيطين به، ويؤكد حرصه على التحالف، وعلى عدم التخلّي عن الحريري، بغض النظر عن بعض الاخطاء، والتي كان يعبّر عن استيائه منها بتغريدات متفرقة، ثم يعود ويتفق بعدها مع الحريري على تخفيف حدّتها. جنبلاط نفسه أكد مراراً أن لا بديل عن سعد الحريري، وحين يذكر "الطائف" كان يعتبر ضمناً أنه بذلك يحمي الحريري ووجوده ودوره.
من الواضح اليوم، أن حسابات زعيم "المستقبل"، كانت في مكان آخر. ربما (وبالعودة إلى مطبّات العلاقة بين الرجلين)، أن الحريري لم ينس لحظة انقلاب جنبلاط على تسميته، فسمى نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة. قد يكون الحريري في عمقه راغباً بالانتقام من تلك اللحظة. لكن زعيم التقدّمي "فتح قلبه" له ذات مرّة، وعبّر عن جملة الأسباب التي دفعته إلى ذلك. ووضعه في صورة التطورات الدولية والإقليمية، نفسها أو المشابهة لها، التي حتّمت عليه الانقلاب على كل ثوابته وانتخاب عون، مستنداً على حاجات محلية وظروف دولية وإقليمية مساعدة. والحريري نفسه عاد وتحالف مع ميقاتي بلدياً ووزارياً، وتحالف مع عون وباسيل اللذين أسقطوه من دارتهم (بالرابية) رافعين شعار ("وان واي تيكيت") لحظة دخوله إلى البيت الأبيض.
على الأرجح، الأسباب الماضية ساقطة. وإذا ما كان الحريري يريد الانتقام من جنبلاط على خلفية الموقف من حكومة ميقاتي، فلماذا يعمل أيضاً بأسلوب الانتقام الصامت من "القوات اللبنانية"، التي بقيت إلى جانبه، ولم تتركه في أي ظرف، ولطالما ساندته في وزارته وصولاً إلى حدّ القبول بوزير واحد، راضية بمحاصرته لها في انتخابات 2009، بذريعة أن "تيار المستقبل" عابر للطوائف، ليعود اليوم حزباً يتبنى فكرة "أبوة" طائفة وحسب، ويسعى إلى التحالف مع قوى طائفية أخرى، خفّضت حصته النيابية من 35 وزيراً إلى 20، وتطوّق صلاحياته، وتحدد سقف عمله، وتفرض عليه الشروط المتتالية.
البوح والسؤال
في الحملة الانتخابية عام 2009، وقف جنبلاط إلى جانب الحريري، في إقليم الخروب، أمام جمهوره السنّي وتوجه إليه بالقول: "أنصحك يا شيخ سعد بعدم تحويل السنّة إلى طائفة". كانت نظرة جنبلاط يومها شاملة، بأفق واسع، يطمح إلى إبقاء هذا النوع من الانفتاح قائماً، كمرتكز اجتماعي وطني يُتكل عليه في فرض التوازن السياسي، ومنع أي تنازل أو الانكسار التام. كان ذلك قبل التحول الكبير الذي أنتج تسوية "السين السين".
الشكل الذي خرجت به التشكيلة الحكومية قبل أيام، كان أكثر ما استفزّ جنبلاط، وأثبتت وجهة نظر آخرين بأن الحريري أصبح في مكان بعيد. والرهان على استعادته ليس بالأمر اليسير إن لم يكن مستحيلاً. تفاجأ جنبلاط بطريقة توزيع الوزراء والحقائب على الأحزاب والمناطق، وأيقن أن طريقة إدارة الحريري للأمور تخفي ما تخفيه، وهي لم تتسبب بامتعاض جنبلاط فقط، بل حتى امتعاض قياديين "مستقبليين" وبعض رجالات السنّة المقربين. هذا، بمعزل عن القوات اللبنانية، التي تستمرّ محاولة تطويقها.
حمل السنين هذا، تأخّر جنبلاط بالبوح عنه، ويُختصر بالسؤال الذي وجهه إلى الحريري، حول اتفاق الطائف، وما الذي ينوي أن يفعله بهذا الاتفاق؟ خصوصاً أنه الاتفاق الذي صنعه رفيق الحريري واستشهد من أجله. يبدو السؤال قاسياً، ولكن لا بد منه عند جنبلاط، الذي أشار - وللمرة الأولى - بأن سعد الحريري لا يتصرف كرئيس للحكومة، وينسى صلاحياته، ولا يعنيه سوى بعض الاتفاقات المصلحية من هنا أو هناك. وصل الأمر بـ"البيك" إلى استذكار أيام كان يوضع فيها اتفاق الطائف على طاولة الحكومة. لكن منذ التسوية الأخيرة، لم يعد للاتفاق وجود، لا بالشكل ولا بالمضمون.. مبدياً استغرابه حول السطوة التي يحظى بها الوزير جبران باسيل، ويفرضها على الجميع، خصوصاً بعد مؤتمره الصحافي الذي أعلن فيه الانتصار، وحدد الخطوط العريضة للبيان الوزاري والمرحلة المقبلة، مستغيباً دور الحريري.
إلى المواجهة
أعلنها جنبلاط صراحة: "سنواجه". وتوجه إلى الحريري مباشرة بالقول: "التفريط بالطائف يعني أن الأمور وصلت إلى حدّ اللعب بالنار". أطلق جنبلاط مواجهة جديدة من داخل الحكومة ومن خارجها، بوجه الجبهة المضادة المتمثلة بالحريري - باسيل. لن تقتصر المواجهة على كشف الصفقات التي تحدث عنها جنبلاط لاحقاً، بعد تلزيمي دير عمار ومرفأ تخزين النفط في طرابلس. بل ستشمل الجوانب السياسية والاقتصادية الاجتماعية.
المواجهة ستكون انطلاقاً من ثوابت سياسية، عنوانها الأساسي اتفاق الطائف، والفرعي صلاحيات رئاسة الحكومة، التي بدت مغيّبة كلياً طوال الفترة السابقة، لتعود رئاسة الحكومة، كاملة الموازنة في مختلف المجالات السياسية، ولا تقتصر على كرسي الجلوس فقط. والأساس في المواجهة اختاره جنبلاط أيضاً، بعد تضحية الحريري بملف اللاجئين، تمهيداً للتضحية بهم (بعد تولي وزير محسوب على النظام لهذه الوزارة)، معلناً رفضه السماح برمي اللاجئين في فم الأسد أو إرسالهم إلى السجون والتعذيب والمحرقة، مهما كلّف الثمن.
كلام جنبلاط، يماشيه صمت "قواتي" لكنّه أيضاً يتماهى معه. وما بينهما اختلاجات جمهور محبط من بيئة الحريري وتيار المستقبل، يطرح التساؤل تلو التساؤل حول المرحلة، وحول ما الذي جناه الحريري من التسوية التي كان قبلها. يرث زعامة (سنّية) عابرة للطوائف، فيغدو اليوم مجرد شريك منافس وعلى السوية نفسها لزعامات مناطقية، مع ميقاتي والصفدي في طرابلس، وحسن مراد في البقاع، وأسامة سعد في صيدا. وهذا سيتطور بعد سنوات لإبراز زعامات سنية أخرى في بيروت وغيرها. وهذا سيفقد الحريري بداهة اتساع رقعة زعامته السنية. تلك الساحة الجياشة التي تحتاج إلى رصّ صفوفها واستعادة خطاب يعبّر عن ثوابت لحظة 2005. وهذه ستكون لحظة متاحة أمام جنبلاط القادر على مخاطبة هواجس ومشاعر السنّة، كما كان في تلك الحقبة، وإلى جانبه جعجع، الذي يمثّل أيضاً رمزية للصلابة في وجدان السنّة، بالتعاون مع شخصيات مستقبلية أو "حريرية" (النسبة هنا للأب) أصبحت على مسافة مع "بيت الوسط"، لانسجامها مع خطابها وشعور جمهورها. ولا ننسى، الأحزاب الأخرى والحراكات السياسية المتنوعة التي قد تتلاقى لصوغ ما قد يكون قريباً انطلاقة لـ"جبهة المعارضة اللبنانية" الجديدة.