بدأت إيران في اليوم الأول من شباط – فبراير الجاري احتفالات تستمر عشرة أيام في مناسبة الذكرى الأربعين لعودة آية الله الخميني إلى طهران بعدما أمضى أربعة عشر عاما في المنفى.
عاد الخميني في طائرة ركاب (جمبو) تابعة لشركة “آر فرانس” نقلته من باريس إلى طهران ليعلن قيام “الجمهورية الإسلامية”. كانت لديه فكرة واضحة عمّا يريده، وعن النظام الذي سيقوم في إيران والمبني على دستور محدد المعالم يعتمد على نظرية “الوليّ الفقيه” التي لا إجماع شيعيا عليها.
لم يتنبه الإيرانيون أنفسهم إلى ما يمثّله الخميني وإلى أهدافه. ما كان ينطبق في تلك المرحلة على الإيرانيين الذين كانوا يعتقدون أن بلدهم سيصبح بلدا ديمقراطيا منفتحا تحكمه قوانين عصرية، انطبق أيضا على العرب عموما، وعلى المجتمع الدولي الذي ضاق ذرعا بالشاه محمد رضا بهلوي وتردده.
لا يزال العالم العربي يدفع إلى اليوم ثمن الاستخفاف بالخميني وقدرته على نقل شعار “تصدير الثورة” إلى واقع. بدل عقد قمة عربية تخصص للتعامل مع إيران الجديدة، انصرف العرب إلى البحث في كيفية مواجهة مصر التي كانت وقّعت مع إسرائيل اتفاقي كامب ديفيد في خريف العام 1978 والتي كانت في طريقها إلى توقيع معاهدة سلام معها في آذار – مارس 1979. أي بعد شهر من عودة الخميني إلى طهران ومباشرته التأسيس لنظام جديد يعتمد قبل أي شيء آخر على الميليشيات المذهبية التابعة لـ“الحرس الثوري”. هذه الميليشيات منتشرة حاليا على نحو واسع في العراق وسوريا ولبنان واليمن…
ما افتقده العرب في تلك المرحلة هو النظرة الشمولية إلى المنطقة. افتقدوا عمليا معنى أن أنور السادات اتخذ قرارا نهائيا لا عودة عنه بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وذلك في ضوء الانهيار الداخلي في مصر، والذي كان انهيارا اقتصاديا قبل أيّ شيء آخر. ليس معروفا إلى اليوم كيف كان ممكنا تجاهل الخطر الإيراني والتركيز على مصر والبحث عن طريقة لنقل الجامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس بعد إخراج مصر منها.
كان طبيعيّا في ظلّ المعطيات الإقليمية السعي إلى الاستفادة من اتفاقي كامب ديفيد. كان الأوّل يتعلّق بالعلاقات بين مصر وإسرائيل، والآخر بمستقبل الضفة الغربية وغزّة. في العام 1978، لم يكن عدد المستوطنين في الضفة الغربية يتجاوز بضعة آلاف. هناك الآن ما يزيد على 800 ألف مستوطن في الضفة الغربية، فيما قطاع غزّة محاصر. ماذا فعلت إيران من أجل فلسطين والفلسطينيين منذ أربعين عاما؟ لا شيء يذكر باستثناء الاستثمار في القضيّة وخطفها من العرب والمتاجرة بالفلسطينيين وبالقدس تحديدا.
غابت العقلانية عن العرب في العام 1979، بل قبل ذلك. لم يحصل أي تعاط عربي مع الواقع الذي خلقه أنور السادات عندما سافر إلى القدس في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1977 وألقى خطابه أمام الكنيست. ماذا لو أدرك صدّام حسين وقتذاك، وكان في طريقه إلى إزاحة أحمد حسن البكر من الرئاسة، أنّ مشكلة ذهاب أنور السادات إلى القدس ليست مشكلته، بل مشكلة البعثي الآخر حافظ الأسد الذي كان حليف الرئيس المصري في حرب 1973 والذي كان يراهن على استمرار حال اللاحرب واللاسلام في المنطقة إلى يوم القيامة، كون هذه الحال تخدم مصالح نظامه وتسمح له بابتزاز أهل الخليج إلى أبعد حدود الابتزاز.
لم يكن لدى أحمد حسن البكر وصدّام حسين في مرحلة ما بعد زيارة السادات للقدس أي فكرة عن اللعبة الجديدة التي تدور في المنطقة. في الواقع، جرّ البعثان السوري والعراقي العرب الآخرين إلى مقاطعة مصر. وقع الجميع في الفخّ الذي نصبه لهم حافظ الأسد الذي استفاد من الغياب المصري كي يعزز وجوده العسكري والأمني في لبنان من جهة، ويعمّق العلاقة التي أقامها مع إيران- الخميني من جهة أخرى.
من الضروري بين حين وآخر العودة إلى تلك المرحلة لعل ذلك يفيد في تفادي تكرار خطأ عربي ضخم من نوع التركيز على طرد مصر من جامعة الدول العربية، بدل التركيز على الخطر القادم من إيران الجديدة التي أصرّ الخميني على إطلاق تسمية “الجمهورية الإسلامية” عليها مستبعدا أيّ طرح آخر، بما في ذلك طرح رئيس الوزراء مهدي بازركان الذي ترأس الحكومة الأولى التي تشكّلت بعد انهيار نظام الشاه.
ما ينطبق على تلك المرحلة، ينطبق على المرحلة الراهنة التي تحتاج إلى فهم في العمق للحاجة إلى التعاطي مع الوضع السوري بطريقة مختلفة بعيدة كلّ البعد عن الأفكار القديمة. من بين الأفكار التي توجد حاجة إلى تجاوزها فكرة أنّه لا يزال هناك شيء اسمه النظام السوري، وأنّ هذا النظام قابل لإعادة تأهيل. سوريا التي عرفناها صارت جزءا من الماضي. كلّ ما في الأمر أن النظام استخدم في شنّ حرب على الشعب السوري لا هدف منها سوى تفتيت البلد. وقع النظام ضحيّة لعبة الابتزاز التي لم يتقن غيرها يوما. سوريا مدمّرة. ساذج من يعتقد أن لبنان يمكن أن يستفيد من إعادة إعمار سوريا في الوقت الراهن. وساذج أكثر من يظنّ أن السلام استتب فيها، وأن النظام استعاد حيويته وأنّه سيشرف على إعادة بناء ما هدّمته الحرب.
ليس عيبا أن تكون هناك بعثات دبلوماسية عربية في دمشق. السيء هو جهل ما يدور تماما في دمشق وإلى أيّ حد لم يعد هناك نظام قادر على الوقوف على رجليه. فمن دمشق ومن غير دمشق يمكن استشفاف المرحلة الجديدة التي تبدو سوريا مقبلة عليها وكيف أن سوريا ستشهد بداية انحسار المشروع التوسّعي الإيراني الذي يواجه في الوقت ذاته صعوبات، لا يمكن الاستخفاف بها في العراق، خصوصا في الوسط الشيعي العراقي. لعب النظام السوري، سواء أكان في عهد الأسد الأب أو الأسد الابن، دورا في غاية الخطورة على صعيد تمكين إيران من اختراق المنطقة العربية. يكفي وقوف النظام السوري مع إيران في حربها مع العراق بين 1980 و1988 للتأكّد من ذلك.
ما هو مطروح اليوم في سوريا لا يتعلّق بالنظام، الذي صار في مزبلة التاريخ، ولا بإعادة البناء. ليس هناك من هو على استعداد للتوظيف في إعادة بناء سوريا وإعمارها في الوقت الحاضر. من هو مهتم بإعادة البناء والإعمار، مثل روسيا، لا يمتلك الأموال التي تسمح له بذلك. روسيا دولة تعاني من مشاكل اقتصادية ضخمة ولم تجد بعد من يشتري منها ورقة سوريا إلا إذا استطاعت وضع حدّ للوجود الإيراني في هذا البلد العربي.
إذا كان الخطر الإيراني غاب عن العرب في العام 1979، يفترض ألّا يغيب في 2019 خطر من نوع آخر هو خطر الوجود الإيراني في سوريا والحاجة الروسية إلى تقليصه قدر الإمكان. متى سيكون في استطاعة موسكو القول إنهّا قادرة على مواجهة إيران في سوريا… سيتوفّر من هو على استعداد للأخذ والرد معها من منطلق أنّ لديها ورقة اسمها سوريا.