لم تكن الأشهر الطويلة التي أدار فيها الرئيس المكلّف سعد الحريري مفاوضات تشكيل حكومته الثالثة، حالة شاذّة أو خارجة عن المألوف، بل تعدّ مهلة معقولة في مخاض تشكيل الحكومات اللبنانية، أقلّه منذ عام 2005 حتى الآن، خصوصاً عندما تكتسب التركيبة الوزارية صيغة حكومة الوحدة الوطنية، التي تحكمها عوامل داخلية، بخلاف حكومات ما بعد «الطائف»، أي ما بين عامي 1990 و2005، حيث كانت تشكّل الحكومات بإرادة الوصاية السورية دون سواها.
كلّ الوسائل التي اعتمدت في عمليات تأليف هذه الحكومات تخالف روح «الطائف» الذي بات دستور لبنان، خصوصاً بعدما أضحت الأعراف متقدمة على نصوص الدستور وجوهره، والكلمة الفصل تخضع لسلطة الأمر الواقع، ويؤكد النائب والوزير الأسبق محمد عبد الحميد بيضون، أن «لا وجود لحكومة أكثرية برلمانية ومعارضة برلمانية منذ الطائف حتى الآن»، مشيراً في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن «حكومات لبنان منذ الطائف حتى عام 2005، تكوّنت من حلفاء الوصاية السورية، ومن الراضين بوجود تلك الوصاية، أما بعد خروج الجيش السوري في عام 2005، فقد باتت خاضعة للوصاية الإيرانية ممثلة بـ(حزب الله)، ورجالات تحكم باسم هذه الوصاية»، لافتاً إلى أن «قوى 14 آذار انتصرت في عام 2005 على الوصاية السورية وأخرجتها من لبنان، لكنها عادت وانهزمت أمام (حزب الله)».
ومنذ عام 1990 تأرجح عدد الوزراء في الحكومات المتعاقبة ما بين 24 و30 وزيراً، وكانت أسماء معظمهم تأتي من دمشق، فيما تتراوح حصّة رئيس الحكومة بين وزيرين أو ثلاثة، ولرئيس الجمهورية العدد نفسه، لكن بعد خروج الجيش السوري في عام 2005 غداة اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، شُكّلت حكومة تكنوقراط من 24 وزيراً برئاسة نجيب ميقاتي، تولت إدارة الانتخابات النيابية بنجاح، واتخذت قرارات مهمّة على صعيد التعيينات الأمنية، والتعاون مع لجنة التحقيق الدولية الخاصة باغتيال الحريري. وتمكنت قوى 14 آذار من اكتساح الأكثرية في انتخابات 2005، إذ حصلت على 73 نائباً، وكلّفت فؤاد السنيورة بترؤس حكومة ما بعد الانتخابات، حيث انتزعت فيها أكثرية ثلثي عدد الوزراء، أي 20 وزيراً، مقابل عشرة وزراء لتحالف قوى 8 آذار، لكنّ الوزراء الشيعة الستّة والوزير يعقوب الصراف المحسوب على الرئيس السابق إميل لحود خرجوا منها في خريف عام 2006، وطالبوا باستقالة الحكومة التي بقيت مستمرة، إلى أن اجتاح «حزب الله» بيروت عسكرياً في 7 مايو (أيار) 2008، وفرض «الثلث المعطل» على الحكومة الجديدة التي تألفت بعد انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في 25 مايو 2008، واحتفظ الحزب بالثلث المعطّل حتى بعد فوز 14 آذار بالأكثرية النيابية مجدداً في انتخابات 2009، حيث نال حلفاء إيران والنظام السوري 11 وزيراً من أصل 30 وزيراً في حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى.
من جهته، ردّ السياسي اللبناني توفيق الهندي، أسباب اختيار الحكومات الفضفاضة منذ «الطائف» حتى الآن، إلى «خضوعها لسيطرة سوريا ثم إيران، وإشراك أغلب الأطراف الموالية لدمشق وطهران في السلطة». وقال لـ«الشرق الأوسط»، إن الحكومة الجديدة «تشكّلت من 30 وزيراً من أجل إشراك كلّ الأطراف لتوفير غطاء سياسي لـ(حزب الله) بسبب العقوبات المفروضة عليه وعلى إيران، ولكي تشكّل الحكومة متراساً سياسياً يحتمي به». وأكد الهندي أنه «ما بين عامي 2005 و2009 كان هناك قوّة سياسية وشعبية لفريق 14 آذار، لكن هذا الفريق خسر نفوذه بسبب خطأ استراتيجي ارتكبه، عبر إشراك أطراف مثل (حزب الله) وحلفاء بشار الأسد، وهذا ما أوصل البلد إلى ما وصل إليه اليوم». وشدد الهندي على أن «أصل الخلل في بنية النظام اللبناني، يكمن بعدم تطبيق اتفاق الطائف، الذي ينصّ على بناء دولة تنهي حالة الميليشيات». وأضاف: «للأسف ترك الأمر إلى سوريا التي انقلبت على روحية الطائف وقوضت مؤسسات الدولة، وبعد عام 2005، أوكلت إيران المهمة إلى (حزب الله) الذي فرض هيمنته على البلد». وسجّلت حكومة الرئيس تمام سلام التي شكّلت خلال شهر فبراير (شباط) من عام 2014، رقماً قياسياً في المماطلة، إذا استغرق تشكيلها أحد عشر شهراً، حيث نال فيها فريق 14 آذار عشرة وزراء، وقوى 8 آذار عشرة، ورئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان والحزب التقدمي الاشتراكي عشرة وزراء أيضاً، وكان يفترض أن تستقيل بعد ثلاثة أشهر، غداة انتخاب الرئيس الذي يخلف سليمان، لكنها أدارت مرحلة الفراغ الرئاسي الذي استمر عامين ونصف العام، لتخلفها حكومة سعد الحريري المستقيلة حالياً، التي تشكّلت بعد التسوية التي أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية.
ومهما كان شكل الحكومة وتقسيم حقائبها، تبق من دون تأثير سياسي ومعنوي، على حدّ تعبير بيضون، الذي قال إن «لبنان محكوم منذ عام 2005 بمعادلة الوصاية الإيرانية التي تمتلك قرار الأمن والدفاع والسياسة الخارجية، في حين أن في الداخل سبعة أشخاص يتقاسمون البلد، والمؤسسات تعمل على تغطية قرارات المحاصصة»، متوقعاً «استمرار هذا الواقع إلى حين انهيار النظام الإيراني».