في الصبيحة التي سبقت العشاء بين الرئيس سعد الحريري ووليد جنبلاط، غرّد الأخير، بأنه في أوج الأزمة الحكومية جرى تلزيم بشبه التراضي لمرفقين أساسيين من الملك العام، خزانات مصفاة طرابلس، والمحطة الكهربائية لدير عمار، باعوا عبر سماسرة الدول، وحداثة النعمة، الثروة الوطنية. الرسالة اتضحت. يعتبر جنبلاط بهذه التغريدة، أن اتفاق المصالح يتقدّم على كل الاتفاقات الأخرى. وبمجرد الحديث عن هذا النوع من الاتفاقات، يعني أن العلاقة بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل، أو تحديداً بين الحريري وباسيل، أعمق من أن يدخل بينهما أحد. خصوصاً، أن الحريري لا يقبل النقاش في علاقته مع باسيل، ولو كانت على حساب كل القوى الأخرى.
استضعاف جنبلاط!
فهم من التغريدة أن اتفاق المصالح أقوى من كل شيء. ومهما يريد أي طرف الوقوف إلى جانب الحريري، فإن حسابات الحريري مختلفة تجاه باسيل. وفهم أيضاً، أن اتفاق المصالح هذا سيفرض على جنبلاط تقديم التنازل، خصوصاً بعد العشاء الودّي الذي جمعه بالحريري، والذي عمد الحريري إلى مطالبته بالتنازل عن وزارة الصناعة همساً، وبمعزل عن إشراك الحاضرين في النقاش، كان جنبلاط إيجابياً ولا يريد إفشال رئيس الحكومة المكلّف.
لكن، فيما بعد، وبعد انتهاء العشاء، وغوص جنبلاط بالتفكير، عاد وأرسل رسالة ليلية متأخرة إلى الحريري، يعبّر فيها عن اعتذاره، عن تقديم التنازل عن وزارة الصناعة، لا سيما وأن كل الأفرقاء يصرّون على مواقفهم ويتمسكون بمطالبهم، فتُدار وجهة الأمور إلى كليمنصو لتدفيعها الثمن. رفض جنبلاط دفع الثمن، وبالأخص حين يتسيد مبدأ "اتفاق المصالح يتقدّم على كل الاتفاقات الأخرى"، وحين كل التنازلات التي قدّمها، لم تؤد إلى أي تغيير، أو على الأقل إلى وقف الهجومات التي يتعرّض لها. وعلى هذا، وفي حال تنازل عن الصناعة من دون الحصول على وزارة توازيها أهمية، حينها سيكون قد خسر كثيراً، سياسياً ومعنوياً وشعبياً.
التزامات جانبية
هذا تماماً ما تجلّى في تغريدة جنبلاط، التي فتحت نقاشاً آخر، يفرض البحث عن أسباب ضغط الحريري وباسيل معاً على إنجاز التشكيلة الحكومية. في موازاة ذلك، كان أعضاء اللقاء التشاوري يختلفون فيما بينهم حول الشخصية التي ستمثّلهم في الحكومة. كما أن الخلاف توسّع أكثر، خلال الاجتماع الذي عقد مع المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل، حول شرط التزام وزيرهم المفترض باجتماعات تكتل "لبنان القوي". انقسم أعضاء اللقاء إلى قسمين، فبينما باسيل كان يطالب بعض النواب بالانضمام إلى تكتله، نجد أن النائبين وليد سكرية وقاسم هاشم في كتلتي الوفاء للمقاومة والتنمية والتحرير، بينما عبد الرحيم مراد وعدنان طرابلسي وافقا على الانضمام إلى التكتل، الأمر الذي رفضه قطعياً كل من فيصل كرامي وجهاد الصمد. واكتشف أعضاء اللقاء التشاوري أن مراد أبرم تفاهماً مسبقاً مع باسيل على توزير نجله حسن، مقابل تصويت مراد مع عون في الحكومة في الأمور التقنية، ومع حزب الله في الأمور الاستراتيجية. كما أن باسيل يريد قطع الطريق على توزير كرامي أو من يمثله بشكل كامل، أولاً لارتباطه مع تيار المردة، وثانياً بسبب خلافات عديدة معه، وثالثاً لأن الحريري لا يريد توزير ممثل عن كرامي من طرابلس، الأمر الذي سيحشره في اختيار وزرائه، طالما أنه يرتبط بتوزير ممثل عن الرئيس نجيب ميقاتي، وبممثل عن الوزير محمد الصفدي، والثالث يجب أن يكون للمستقبل لا للتشاوري.
وبناء على الاتفاق بين مراد وباسيل، يجد الحريري من مصلحته توزير مراد، الذي أيضاً يجد توافقاً إماراتياً مصرياً حوله، ولا يحشر الحريري في الشمال، أما وضعه في البقاع الغربي فلن يؤثر كثيراً على الحريري، الذي سيحتفظ بتوزير جمال الجرّاح كندّ مقابل لمراد. وبالتالي ترك الأمر للإسم الذي سيختاره رئيس الجمهورية، وسيكون محط توافق مع رئيس الحكومة المكلّف. فيما حزب الله كان يحاول لملمة خلاف أعضاء اللقاء التشاوري، ويطالبهم بالتوافق والتفاهم لإنجاز الحكومة، وفيما بعد تتم معالجة الأمور الأخرى.
بين روسيا وأميركا
استمرّت الإيجابية بالسيطرة على الأجواء، واعتبر حزب الله أنه حقق كل مطالبه، ضمن المنطق الذي تسلكه الأمور حتى الآن. ولذا، صار من مصلحته أن تتألف الحكومة، على عكس القوى الأخرى، التي قد تترتب عليها ضغوط عديدة، من قوى خارجية، بسبب حكومة وفق هذه الصيغة، إذ قد تسمّى "حكومة حزب الله". وبهذا المعنى، يجد الحريري نفسه بين نارين، عدم تشكيل الحكومة سيمثّل ضربة له، وتشكيلها بمقاييس الحزب سيكون مكلفاً له أيضاً. وبالموازنة بينهما، ربما يفضل الحريري الخيار الثاني، خشية الانقلاب عليه أو خسارة رئاسة الحكومة تماماً.
الضغط الروسي المكثف هو الذي يدفع إلى تشكيل الحكومة. وقد رفع الروس مجموعة عناوين ترتبط بلبنان والدول العربية. أولاً، تعزيز المظلة فوق لبنان وجعله بلداً محايداً، مقابل العمل على إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، وتطبيع العلاقات معها والبحث عن سبل لإعادة الإعمار. لكن هذا يواجه بضغط أميركي، سواء عبر قانون قيصر، الذي يفرض عقوبات على كل من يتعاطى مالياً مع النظام، أو يسعى للمشاركة في إعادة الإعمار. والضغط الأميركي استمرّ لبنانياً، تحت عنوان لا يمكن القبول بتشكيل حكومة موالية لحزب الله، وتلبّي طموحاته، وتنسجم مع الشروط التي فرضها منذ البداية.
وفيما سعى الروس إلى الخروج من هذه الشروط الأميركية، على قاعدة فرض الأمر الواقع، وحقيقة أن أياً من الأفرقاء ليس قادراً على مواجهة حزب الله أو معارضته. إذاً، تبدو الغلبة لمبدأ تشكيل الحكومة أفضل من عدمها. وفي هذا الوقت، يبقى ما سيقرره باسيل، حول كيفية إخراج مسألة تدوير الحقائب وضمان الثلث المعطّل. المساعي الآن تتركز على إيجاد الحلول، وتشكيل الحكومة سريعاً.
جهد إيراني - فرنسي
لا شك أن تشكيل الحكومة، سيفيد موسكو كما إيران كما حزب الله، بمعزل عن كل الشروط التي ترفع من قبل الأميركيين، سواء من خلال العقوبات، أو من خلال الشروط السياسية. فطهران وموسكو، بالتقاطع مع دول أوروبية متعددة، تجدان مصلحة في إبقاء لبنان ساحة مستقّرة وفيه حكومة فاعلة، بالتوازي مع فرضية المفاوضات المقبلة على المنطقة، بعد التصعيد المشهود حالياً. وهذا لا يمكن فصله عن الاتفاقيات الاستراتيجية التي يسرع الروس إلى إبرامها مع لبنان، وآخرها التزام منشآت تخزين النفط في طرابلس، كما أن الفرنسيين يريدون هذا التوافق مع الروس والإيرانيين، ويمارسون تأثيرهم على لبنان بواسطة وعود مؤتمر سيدر، والتلويح بإمكانية فشله، في حال عدم تشكيل الحكومة.
الوجهة الأميركية، ضمنياً، لا تعتبر نفسها معنية بشكل عميق في هذه التفاصيل، لأن غايتها مختلفة، وترتبط بملف اللاجئين والعلاقة مع النظام السوري، أما شكل الحكومة فأصبح أمراً واقعاً التسليم بها، بالشكل والصيغة التي يريدها حزب الله. لكن بحال عدم التوافق، فإن الأميركيين حينها سيتصرفون وفق احتمالات مختلفة. وهنا لا يمكن إغفال مدى الترابط الإيراني الأوروبي، بعدما نجح الأوروبيون في إسداء خدمة إلى إيران، بتعديل جدول أعمال مؤتمر وارسو وعدم حصره بمواجهة إيران. ما دفع بإيران إلى إبداء حسن النية للأوروبيين (في الموضوع اللبناني) تماشياً مع الضغط الفرنسي المكثف الذي مورس على اللبنانيين للإسراع بتأليف حكومتهم. ولم يكن هذا بعيداً عن اللقاءات التي عقدها الحريري في باريس مؤخراً. فمنها اتخذ القرار الحتمي بوجوب ولادة الحكومة.