إذا ما سارت الأمور، وفق ما استقرت عليه المشاورات المكثفة التي جرت الأسبوع الماضي، وهذا الأسبوع بين كل الأطراف المعنية، ولم يطرأ في اللحظات الأخيرة، أي جديد، فإن الحكومة العتيدة، ستبصر النور قبل نهاية الأسبوع الجاري، وثمة من يرجح ولادتها خلال الثماني والأربعين ساعة المقبلة، ويطوي هذا الملف الذي يُهدّد النظام السياسي برمته لتبدأ بعده مرحلة جديدة، تتمحور حول كيفية العمل الجماعي للخروج من هذا الوضع المأزوم.
أما الصيغة التي توصلت إليها المشاورات المكثفة التي جرت في الأيام القليلة الماضية فهي حكومة إئتلافية تضم كل الأفرقاء الأساسيين فتضم ثلاثين وزيراً يتمثل فيها اللقاء التشاوري بممثل عنه، يسميه رئيس الجمهورية، ويكون ولاؤه التام للقاء من دون أن يكون على تناقض مع رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر مع تعديلات طفيفة في توزيع الحقائب على القوى المشاركة في الحكومة العتيدة، تجري حالياً مشاورات مكثفة للوصول إلى تسوية لها في الساعات القليلة المقبلة. وتجمع كل الأطراف تقريباً بما فيها حزب الله، الذي حمل لواء تمثيل نواب اللقاء التشاوري، على أن هذه الصيغة شكلت المخرج للأزمة الحكومية، لأنها وفقت بين مطلب التيار الوطني الحر في مقابل تخليه عن الوزير السني ومطلب الرئيس المكلف الذي يرفض بشكل قاطع أن يكون تمثيل اللقاء التشاوري على حساب حصته في الحكومة العتيدة ومطلب حزب الله توزير ممثّل عن اللقاء التشاوري في الحكومة العتيدة، وحصوله على حقيبة الصحة رغم الرفض الأميركي القاطع لهذا الأمر، وتهديده للحكومة اللبنانية بوقف أية مساعدات طبية لوزارة الصحة.
فالحكومة التي ستولد خلال الساعات القليلة المقبلة ستكون ولادتها طبيعية وفي الشهر التاسع من حبل أزمة التأليف، ودخول كل القوى في تفاهمات الحد الأدنى تحت سقف الدولة، وإذا ما سئل أي مراقب في الداخل، ومن الخارج عما يحصل في لبنان، فهو لا يجد أي تفسير سوى الاكتفاء بالقول بأن هذا البلد هو بلد العجائب، وما يحصل فيه يعكس هذا الواقع، لكنه يكشف في ذات الوقت عن فشل كل الطبقة السياسية في الحفاظ على الدولة وعلى نظامها الذي ينتهك على مدار الساعة من قبلها، منفردين ومجتمعين، ولا يختلف أحد مع الآخر، على ان قطوع التأليف لا يؤدي حتماً إلى انتظام الدولة ومؤسساتها في ظل حكومة المتخاصمين والمتضادين والمتناقضين، ولا إلى خلق أية حالة اطمئنان بالنسبة إلى انتظام العمل الحكومي لاحقاً في ظل انعدام أي قاسم مشترك بين أعضائها سوى على توزيع المغانم التي تأتي حكماً من السلطة، وهذا ما تجلى في الاشتباك الأخير الذي حصل على الحقائب الوزارية والذي أدى إلى تأخر ولادة الحكومة والذي قد يفسد كل شيء في حال لم يتنازل أحدهم للآخر، وفي حال ابصرت الحكومة النور كما بات متوقعاً في الساعات القليلة المقبلة، ولم يحصل أي تطوّر مفاجئ يُعيد عقارب ساعة التأليف إلى الوراء، بذلك تكون الطبقة السياسية قد أعادت إنتاج نفسها وفق القاعدة التي باتت واضحة لكل اللبنانيين، وتكون البلاد عادت كما كانت عليه إلى عملية شد حبال داخل مجلس الوزراء، الأمر الذي من شأنه ان يحكم على حكومة العهد الأولى التي تركت البلاد في حالة فراغ تسعة أشهر، بالفشل وعدم القدرة على الانتاجية وعلى التصدّي للمشكلات الكثيرة التي تواجه لبنان، وفي مقدمتها المشكلة الاقتصادية التي شارفت حدّ الانهيار، فيما كانت الطبقة السياسية منشغلة في التسابق على الحصص وعلى الحقائب الخدماتية في الحكومة العتيدة، مما ينعكس سلباً على العهد الذي يتحمل هو أيضاً مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد والعباد نتيجة تمسك كل فريق بما يرضي مصالحه الذاتية بمعزل عن المصلحة الوطنية العامة التي وصلت إلى أعلى المراتب في ظل غياب الرؤية المشتركة للطبقة السياسية ذاتها.
وإذا كان الجميع، كما يقال، قد توصلوا إلى قناعة بضرورة الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي تدور داخلها مصالح النّاس والمجتمع اللبناني، فإنه لا يزال امام هذه الطبقة مطبات كثيرة أوّلها الاتفاق على البيان الوزاري الذي كان يُشكّل عقبة كبيرة امام كل الحكومات التي تشكّلت بعد السادس من تموز 2006، لجهة تضمينه بند الشعب والجيش والمقاومة أو لجهة الأولويات التي يجب على أية حكومة ان تضعها امام عينيها، وفي مقدمتها الإصلاحات التي تحدث عنها مؤتمر «سيدر» والتي تصب في وقف هدر المال العام، وفي وضع حدّ نهائي لسلب الدولة وتوزيع المكاسب على تلك الطبقة السياسية بالتساوي، فإن ما من أحد يقدر على ان يصدق بأن حكومة من هذا النوع مبنية على التناقضات في ما بين مكوناتها ستكون قادرة على الاستجابة للمطالب الشعبية التي تفاقمت بشكل بات يُهدّد أكثرية الشعب اللبناني بالفقر والجوع والفاقة. يبقى السؤال نفسه الذي طرح بعد تشكيل الحكومة المستقيلة مطروحاً وهو كيفية الخروج من الأزمات المتفاقمة والشروع في بناء دولة العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، بدلاً من التلهي بالمناكفات داخل مجلس الوزراء وتفويت ما تبقى من فرص لإنقاذ البلد من واقعه المأساوي الذي اوصلته إليه هذه الطبقة؟
من الصعب بمكان الإجابة على هذا السؤال بشكل إيجابي ما دام ان هذه الطبقة نقلت خلافاتها الاستراتيجية والتكتيكية إلى داخل مجلس الوزراء بقدر ما يصح القول بأن ولادة الحكومة العتيدة لن تغيّر شيئاً من الواقع المؤلم الذي اوصلوا إليه البلاد، بل ان الأمور ستشهد في بعض الوقت حالة من استراحة المحارب لتبدأ بعدها المعارك بين أطراف السلطة الحاكمة مما يؤدي إلى استمرار الشلل المقنع في دوائر الدولة ومؤسساتها الرسمية، وتعود أصوات النّاس الجائعين إلى الارتفاع مطالبة هذه الطبقة السياسية الحاكمة بالكف عن تناقضاتها والالتفات إلى إيجاد الحلول للمشاكل الحقيقية التي تواجهها البلاد.