بات واضحاً التدهور الطارئ على العلاقة الإيرانية الفرنسية. أولى إشارات هذا التراجع في العلاقة، بدأت تظهر منذ فترة حول الملف اللبناني، وعرقلة تشكيل الحكومة، التي كانت تقابل بتحذيرات فرنسية من عدم استفادة لبنان من مؤتمر سيدر، بسبب إطالة أمد التشكيل. في فترة سابقة، كانت العلاقات جيدة بين الفرنسيين والإيرانيين. واتخذت باريس مواقف عديدة إلى جانب طهران، في ملف العقوبات والاتفاق النووي، حتى أنها حاولت أن تدخل في وساطة حول الصواريخ البالستية. لكن إيران وجدت في فرنسا عاملاً غير مؤثر على الساحة الدولية. ولم تستطع توفير مظّلة لها لخرق قانون العقوبات، والحفاظ على مفاوضات الحدّ الأدنى مع الولايات المتحدة، وغيرها من الدول، في الملف النووي.
مفاجأة فرنسية
وبالأمس القريب، استمرّ رهان الرئيس سعد الحريري على الفرنسيين والروس، لمساعدته في إنجاز تأليفه للحكومة. وجرى أكثر من لقاء ديبلوماسي فرنسي إيراني من أجل ذلك، ما مثّل مظلّة دولية وإقليمية للحريري، داعمة له، وتسانده في مواجهة أي رياح قد تهبّ عليه.
موقفان فرنسيان لافتان أطلقا في اليومين الماضيين. الأول، وجوب حصر إيران لأنشطتها الصاروخية، وعمليات نقل الأسلحة لحزب الله. والثاني، على لسان وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الذي أشار إلى رسالة فرنسية للإسرائيليين بعدم توجيه ضربة للبنان قبل تشكيل الحكومة. ومما قاله لو دريان للإسرائيليين: "إن فرنسا أوقفت الإمدادات العسكرية للجيش اللبناني، وألغى الرئيس الفرنسي زيارته إلى لبنان، الشهر المقبل، بسبب الرفض الكامل للإعمال العسكرية لـ"حزب الله"، المدعوم من إيران". مشيراً إلى "أننا أخبرنا الرئيس الإسرائيلي بأن اللبنانيين أنفسهم سيتغلبون على نزاعهم السياسي، من أجل إقامة حكومة قريبا".
ينطوي الكلام على إشارتين. الأولى، أن هناك مؤشرات، أصبحت متداولة في عدد من الدول، حول احتمال تطور الأوضاع نحو تصعيد عسكري، تقابله مساع للجمه ومنعه. والثانية، لا يزال تفسيرها ملتبساً، إما إطالة أمد تشكيل الحكومة، أو مجرد توقع فرنسي بذلك. بمعنى أنه طالما الحكومة بعيدة فالضربة أيضاً بعيدة. بلا شك أن هذه الفرضية بحاجة إلى المزيد من المعطيات والمعلومات، لإستكمال وضوح السيناريو. وفي الموازاة أيضاً، الرسائل الفرنسية القاسية إلى لبنان وإيران تتوالى، خصوصاً في ظل المعلومات التي تتحدث عن تأجيل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان. فلا يؤكد الفرنسيون إلغاء الزيارة، ويعتبرونها غير مدرجة في جدول زيارات ماكرون. وهذه تبقي الباب مفتوحاً أمام احتمالات مختلفة، ترتبط بالاتجاه الذي ستسلكه التطورات.
خيارات صعبة
وفي موازاة التحرّك اللبناني، والمسعى الذي يقوم به الحريري للوصول إلى تسوية حكومية، استمرت المساعي الدولية للتأثير على قرارات بعض الأفرقاء. لكن مختلف المساعي لم تصل إلى أي نتيجة، حتّى الآن. فيما يؤكد الحريري في أوساطه أن هذا الأسبوع سيكون حاسماً لجهة تشكيل الحكومة. وعلى الرغم من تلويح مقربين منه بإمكانية الاعتذار بحال استمر التعطيل، إلا أنه، وفق ما تؤكد مصادر متابعة لـ"االمدن"، فإن الاعتذار مستبعد حتّى الآن لدى الحريري. وهو أسلوب ضغط يعتمده للرد على الضغوط التي يتعرّض لها، من نوع التلويح بالانقلاب لديه. وتؤكد مصادر قريبة من الحريري، أن أي خطوة قد يقدم عليها، لجهة الاعتذار عن التكليف، هي بلا شك ستكون مرتبطة بتطورات كبيرة وخطيرة، لا تقتصر على الوضع الاقتصادي، بل أيضاً قد تكون مؤشراً لحصول حدث كبير في لبنان، أمنياً أو سياسياً. وهذا يترافق مع تهديدات متعددة تصل إلى لبنان، من احتمال وقوع ضربة إسرائيلية، أو تطور الأوضاع العسكرية بين حزب الله وإسرائيل. وتلفت المصادر، أن الحريري بحال فشل مساعيه سيبلغ عون بذلك، وسيقترح تفعيل حكومة تصريف الأعمال. ويقول الحريري أمام من التقاهم الأحد - الإثنين، أنه يحتاج إلى يومين للتحقق من وجهة الأمور. وخلال وجوده في باريس، أبلغ بعض المقربين أنه إذا لم يتوصل إلى مخرج، فسيحمل التشكيلة التي يراها مناسبة، ويذهب بها إلى بعبدا، لوضعها بين يدي عون. وبذلك يكون قد رمى الكرة من ملعبه.
اتصال لافروف
في إطار المساعي الدولية المنهمكة بتسهيل عمل الحريري لتشكيل حكومته، وبعدما كان الحريري نفسه قد طلب سابقاً من روسيا التدخل، تكشف مصادر متابعة لـ"المدن"، أنه جرى اتصال هاتفي، قبل أيام، بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الخارجية جبران باسيل. حاول لافروف إقناع باسيل بالتنازل، وتسهيل تشكيل الحكومة. لكن الأخير رفض التخلي عن الثلث المعطّل، معتبراً أن هذا من حق تياره. وأشار إلى أن هذا المبدأ قد أدى إلى توتر في العلاقة، قبل فترة، بين حزب الله والتيار الوطني الحر، الذي لم يتراجع أمام كل الضغوط، التي تهدف إلى تخلّيه عن الثلث المعطّل.
استنزاف الحريري
وحسب هذه المعلومات، هناك من يتوصل إلى خلاصة، يخشى من خلالها الوصول إلى استنزاف الحريري حتى النهاية، ومن ثم الانقلاب عليه، خصوصاً أنه يتعرض للكثير من الضغوط، وبخاصة عندما أعاد حزب الله رمي كرة التعطيل وتمثيل اللقاء التشاوري في ملعبه، إثر إعادة تعزيز العلاقة بين الحزب والتيار الوطني الحرّ. وهذا الضغط ينسجم مع ضغط من قبل النظام السوري، ومن قبل إيران غير المستعدة لبيع أي ورقة حالياً، قبل تبلور صورة المشهد الإقليمي. هذه التعقيدات كلها ستضع الحريري أمام خيارين أحلاهما مرّ، إما أن ينصاع كلياً لرغبة الحزب والتيار الوطني الحرّ ويذهب إلى بيت الطاعة، أو أنه قد يتعرّض لعملية انقلاب، أو إزاحة من رئاسة الحكومة، حالما يتم استنزافه نهائياً.
لذلك، عاد الحريري إلى بيروت. ويصرّ على العمل للوصول إلى تشكيل الحكومة في أسرع وقت، مع تشديده بأن هذا الأسبوع سيكون حاسماً. وهو سيطلق جولة مشاورات جديدة مع الأفرقاء، بحثاً عن تنازل من أحدهم، وتوفير المخرج للتشكيل. بينما الخيارات عادت وطرحت كلها على الطاولة، من تنازل حزب الله عن وزير شيعي لصالح رئيس الجمهورية، مقابل تسمية وزير سنّي من حصته يمثل اللقاء التشاوري، إلى تنازل باسيل عن الثلث المعطل، مقابل المطالبة بوزارة الأشغال وغيرها من الحقائب للتعويض، أو محاولة الحريري مجدداً إقناع جنبلاط أو جعجع بالتنازل.