قرأت أخيراً كتاب الدكتورة باسمة المنلا: "حكايتي مع السرطان"، الصادر عن دار النهضة. تسرد فيه معاناتها مع هذا المرض العضال الذي تتطلب التخلص منه مسيرة من العذاب تقضي على أجزاء منك. وخلال قراءتي لم أستطع الامتناع عن مقارنة ما جرى لها خلال صراعها مع المرض مع ما يجري في لبنان.
عندما علمت الكاتبة أنها مصابة، توقفت حياتها فجأة وتجمدت. حياتها لم تتوقف عندما بدأ المرض ينخر جسدها، لكن فقط عندما أدركت وجوده.
وفي لبنان بدأ حزب الله ينخر جسد الدولة اللبنانية منذ ثلاثة عقود، وعت قلة بوجوده كعلة في الجسد اللبناني. لكن الأغلبية ظلت تتجاهل العوارض، واستمرت على اعتقادها بأنها مجرد أعراض بسيطة يمكن السيطرة عليها بالمسكنات. إما جهلا أو تبعية أو مصلحة.
عندما انكشفت أعراض الإصابة، أدركت الأكثرية فجأة حقيقة كونه علة ومرضا عضالا. بدأ الخوف والقلق يتسلل إلى القلوب، كما حصل مع المؤلفة، التي لم تمر بمرحلة "النكران"، نظرا لاختصاصها النفسي الذي ساعدها على المواجهة المبكرة. بينما غرق الجسد اللبناني، بسبب ألاعيب طبقته السياسية الفاسدة بمعظمها والمتواطئة، بمرحلة نكران مديدة. كان من شأن هذه المرحلة السماح للمرض بالتغلغل والتحكم بمفاصل الجسم. ومرحلة النكران هذه تترافق مع التشكيك، إما بسبب الشعور بالغضب أو للتغطية على الشعور بالذنب من التغافل والإهمال. وهكذا تفاقم الوضع اللبناني حتى كاد يبلغ حدود اللاعودة.
عندما يتأكد المحيط من إصابة المريض بالسرطان يتصرف بحسب متلازمة "الموت المبكر"، التي تتعامل مع المصاب كأنه سيموت أو هو مات فعلا. وهكذا يتصرف المسؤولون. يصدرون الأحكام والقرارات التي تخرق القوانين ويوجدون أعرافا وتقاليد جديدة تصادر مؤسسات الدولة وتفكك وتلزّم؛ فتتوزع مغانمها بين الأطراف المتواطئة. لكل مؤسسة مالك حصري ولكل مرفق مشغّل ولكل وزير مملكة. فيما يعلن هؤلاء أنهم يحمون الدولة والوطن والمواطن.
إنه نوع من التدريب على موت المريض لتخفيف الألم عند غيابه النهائي. يقبل المواطنون موته نفسيا ويعيشون مشاعر الحداد قبل موته الفعلي. كأنهم يحمون أنفسهم من الهلع والفقدان الذي سيصيبهم لاحقا.
وإلا كيف نفسر هذا التبلد والإذعان والعجز أمام خطر إفلاس وزوال الدولة والنظام؟!
ألا يعاين الجمهور اللبناني بأم العين القيادات اللبنانية التي تمثل أركان الدولة كيف تعطل الدستور الذي أقسمت على صونه؛ دون ردة فعل سوى أصوات خافتة من هنا وتحرك من هناك؟!
والمحطة الأخيرة كانت مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي جهد لسنوات ليبدو كرجل دولة ويقوم بدوره كرئيس لمجلس النواب، أعلى سلطة تشريعية. لكنه استعاد صورته كزعيم ميليشيا بلمح البصر مهددا بتكرار 6 شباط/فبراير (إحدى جولات الحرب الأهلية اللبنانية، التي امتدت بين عامي 1975 و1990، وفي هذه الجولة تقاتل ميليشيات مسلحة مع الجيش اللبناني بهدف إسقاط اتفاق السلام بين لبنان وإسرائيل والمعروف باتفاق 17 أيار/مايو). لم يمنعه كونه المؤتمن على القوانين وركنا من أركان الدولة، أن يضرب عرض الحائط بمستلزمات هذا الموقع. فقام محسوبون عليه وعلى "قوى الممانعة" بتمارينهم الأمنية على "الموتوسيكلات- الدراجات النارية" الشهيرة في لبنان لمنع انعقاد القمة. ما أعاد أشباح الماضي ومخاوفه.
ومع ذلك مرّ الأمر مرور الكرام. كأننا أمام نوبة أوجاع تنتاب المريض ليلا فينساها مع إشراقة الصباح.
الهجمة الممنهجة، من القوى التي تنسب لنفسها صفة "المقاومة"، جعلت الأمر أشبه بتنفيذ أمر عمليات للانقضاض على الدولة وعلى الاستقرار. لا يهم عنوان الهجمة؛ أهي مجرد استغلال لقضية الإمام موسى الصدر أو لعدم دعوة الرئيس السوري؟ لا يهم أن ذلك يتنافى مع تحذيرهم من عدم تأليف الحكومة خوفا من الإفلاس، فلبنان تحول جسدا مستباحا لتجريب جميع المحظورات. ولا رقيب ولا حسيب؛ على العكس، ما أنجزته هذه الطوابير في بيروت من إخلال بالأمن على مرأى الأجهزة الأمنية المكلفة بحماية مؤسسات الدولة كان مدعاة فخر. وبين خلط التمثيل الرسمي والميليشيوي، هيبة الدولة؟ باي باي.
رأس هرم لبنان، الذي شكل خطابه المعادي للوجود السوري مطيته للصعود؛ بات يناضل في سبيل إعادة فرضه. فلبنان يُعامل كمريض فقد ذاكرته ومؤهلاته العقلية وحقوقه المدنية. وفي ظل التعطيل القائم على جميع المستويات يترك فضاء الجمهورية للمنظرين يغرقون البلد بالتحليلات. هل التعطيل داخلي أم خارجي؟ لماذا يحتاج الوزير جبران باسيل للثلث المعطل في الحكومة، في ظل نتائج قانون انتخاب جاء بأكثرية نيابية للخط الذي ينتمي إليه؟ هل للوزير باسيل رغبة في الإمساك بثلث معطل ضد حزب الله؟ هل صدق فعلا حلف الأقليات وندية أو متانة ثنائية حزب الله والتيار العوني؟ هل يغفل عما يريده حزب الله من سيطرة على الدولة دون لبس ولا غموض؟
أم أن الثلث المعطل هو محاولة من العهد لإرجاع النظام السوري؟ وذلك للاعتماد عليه في محاولة لتحسين موقعه تجاه حليفه فيعيد لعبة التوازن على غرار الترويكا الغابرة! فيكون كل ذلك جزءا من عملية الصراع الخفي على النفوذ في لبنان بين حزب الله وإيران من جهة والنظام السوري من جهة أخرى! أم أن إيران تريد رشوة النظام السوري بإعادته إلى لبنان كي تبقى في سوريا بمعزل عن الضغط الأميركي والإسرائيلي والروسي!
أضافت شائعة مرض الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، التي روجت أوساط الحزب أن إسرائيل أطلقتها، ومن ثم تلقفتها هذه الأوساط، أضافت الغموض والتشويق. ما الغرض منها؟ ويبدو أن حزب الله استغلها لتشكل مناسبة للعب على ذاكرة الجمهور التاريخية. فتحولت إلى غيبة صغرى في محاكاة لقصة المهدي المنتظر، بهدف بث القلق في محاولة لاستعادة تعاطف بدأ يضعف وبريق آخذ في الخفوت. ولو أدى ذلك لأن يضطر السفير الإيراني إلى كشف تدخله السافر والمستفز في زيارته لبيت الوسط (قصر رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري) لمجابهة ما أسماه الهجوم الأميركي على لبنان؛ مؤكدا ضرورة "تأليف الحكومة" بأسرع وقت!
يكشف ذلك عن سلوك الطبقة السياسية غير المتجانس وغير المنطقي؛ وهو من الأعراض المعروفة لظواهر نفسية كثيرة، ويبدو أنه أيضا من ضمن نظرية الألعاب السياسية كوسيلة فعالة في علاقات السلطة. يعتقد باحثو التطور البيولوجي أن الحيوانات التي تبنت السلوك غير المتوقع نجحت في الهرب من الحيوانات التي أرادت افتراسها واستطاعت الاستمرار بالوجود لأجيال.
يبدو أن سياسيينا يتبعون هذا المنطق، ومن هنا قدرتهم على البقاء والتكاثر. هذا هو ألف باء مهنة السياسة لبنانيا.
لكن الثابت أن البلد يتفكك، وكل طرف من الأطراف الداخلية يلجأ إلى خارج ما لتقوية نفوذه، في مقابل الخضوع غير المشروط لهذا الطرف لتحقيق مكاسب وأرباح على حساب سيادة ووجود الدولة اللبنانية نفسها. لبنان سفينة تغرق والكل يتسابق لانتشال ما يمكنه منها.
نحن نعاين نماذج مصغرة عن المستقبل المظلم في ظل تفلت الشيعية السياسية إلى جانب ورثة المارونية السياسية المندثرة ورجالاتها، يتعاونون على هدم كل ما تم بناؤه من قبل المؤسسين الكبار الأوائل.
من المعروف أن الخلايا السرطانية موجودة دائما وتحاول أن تتكاثر لكن جهاز المناعة يتصدى لها؛ لكنه لسبب ما يتعطل فيعجز عن التعرف عليها وعن القضاء عليها.
الآن والخيار متروك لنا: إما الاستسلام وتعطيل قدراتنا أو المقاومة لاسترجاع الدولة مع ما يعنيه ذلك من أثمان باهظة.
لم تستسلم المؤلفة للمرض وقاومته ببسالة متحملة الآلام والمواجع وانتصرت.
وعلى المواطن اللبناني أن يختار هل يريد استعادة بلده، مهما كلفه ذلك من أثمان؟ أم لا؟