كان يمكن لفنزويلا أن تكون بلدا مستقرّا ناجحا جاذبا للاستثمارات. لا ينقص فنزويلا شيء كي تكون دولة مزدهرة ذات حجم اقتصادي كبير. لديها ثروة نفطية ضخمة ولديها أيضا ثروات أخرى بما في ذلك مناجم ذهب ومعادن ثمينة أخرى. استطاع الجنرال الشعبوي هوغو شافيز الذي وصل إلى الرئاسة في العام 1998 تحويل فنزويلا إلى أرض طاردة لأهلها. نشر الفقر والبؤس. استطاع ذلك في ظلّ الفساد والشعارات الفارغة من نوع “التصدي للإمبريالية”، أي لأميركا. ليس مستغربا أن شافيز، وهو جنرال مجنون آخر، لم يجد من يتحالف معه غير كوبا وإيران وأدواتها، والنظام السوري ومافياته…
بالنسبة إلى شافيز، كانت السلطة هدفا بحدّ ذاتها. مثله مثل جنرالات كثيرين في هذا العالم لم يجد شافيز مشكلة في القيام بانقلاب عسكري في العام 1992 من أجل الاستحواذ على السلطة. فشل في 1992، وما لبث أن نجح من خلال صندوق الاقتراع في 1998. كان أول ما أقدم عليه بعدما أصبح رئيسا بصلاحيات مطلقة أن ربط فنزويلا بكوبا. استعان بخبراتها الأمنية من أجل البقاء في السلطة. لم يكتف شافيز بعلاقة مميّزة مع كوبا، بل مد يده إلى إيران وأدواتها في المنطقة العربية وإلى النظام السوري والمافيات المشبوهة التي تعمل في ظلّه وذلك من خلال سوريين هاجروا إلى فنزويلا. شغل عدد من هؤلاء مواقع مهمّة في عهد شافيز وتعاونوا مع إيران وأدواتها ومع النظام السوري في ميادين مختلفة أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها مشبوهة. أقام شافيز أيضا علاقات قويّة مع روسيا. لا تزال هذه العلاقات قائمة. فخليفته نيكولا مادورو زار موسكو أربع مرات في 2018 بحثا عن دعم لنظامه المفلس.
عندما أصيب شافيز بالسرطان قبل سنوات، عولج في كوبا ولم يلفظ أنفاسه قبل أن يطمئن إلى أن خليفته (نيكولا مادورو) سيكون دكتاتورا شبيها به. كان شافيز عسكريا آخر لديه شبق لا حدود له إلى السلطة وكيفية الوصول إليها بأيّ ثمن، والمحافظة عليها بأيّ ثمن أيضا. عالمنا العربي مليء بمثل هؤلاء الذين جعلوا بلدانا غنيّة تصل إلى ما وصلت إليه. لا حاجة إلى ذكر أسماء الضباط الذين أوصلوا بلدانهم إلى الحضيض. يمكن الاكتفاء بمعمّر القذافي أو جعفر نميري على سبيل المثال وليس الحصر.
لم يأخذ شافيز من كوبا غير أسوأ ما في كوبا وفي النظام الذي أقامه فيديل كاسترو. هناك نظام صحّي متطور في كوبا إضافة إلى أن الفساد بقي دائما محصورا. أمّا في فنزويلا، فقد أغلقت المستشفيات أبوابها وعاد المرضى إلى بيوتهم في غياب الشروط التي تسمح للطبيب بممارسة مهمته، بما في ذلك انقطاع الدواء. بلد تدخله مليارات الدولارات من تصدير النفط أغلقت مستشفياته أبوابها بسبب غياب الدواء…
يعرف المغتربون اللبنانيون والسوريون الذين مازالوا يعيشون في فنزويلا، أو الذين اضطرّوا إلى ترك البلد، معنى أن يصبح المواطن الذي يعيش حياة كريمة إنسانا فقيرا بين ليلة وضحاها. لم ينجُ من الفقر والبؤس إلا أولئك الذين اختاروا الفرار في الوقت المناسب، أي قبل أن تنهار فنزويلا ويصيروا معدمين. هناك آلاف الفنزويليين يسعون حاليا إلى الانتقال إلى بلاد جارة مثل كولومبيا بحثا عن لقمة العيش. في الماضي القريب، كان أبناء بلدان الجوار وآخرون يأتون من بلدان بعيدة مثل لبنان وسوريا بحثا عن لقمة العيش وحتّى عن الثروة في فنزويلا. هناك فنزويليون ينتقلون يوميا إلى كولومبيا لساعات قليلة بغية الحصول على وجبة طعام!
من أجل إعطاء فكرة عن مدى البؤس الذي تعاني منه فنزويلا، يمكن إيراد رقم عن نسبة التضخم فيها. النسبة هي مليونان في المئة سنويا. نعم مليونان في المئة. هناك حاجة إلى كيس كبير من العملة من أجل شراء دجاجة. أكثر من ذلك، لم يجد شافيز من يتعاطى معه في العالم غير روسيا التي استثمرت في السنوات العشرين الماضية نحو 17 مليار دولار في فنزويلا. استغلت شركات روسية كبيرة انسحاب الشركات الأميركية من فنزويلا كي تدخل في شراكة ومشاريع مع شركات فنزويلية يسيطر الجنرالات على معظمها.
ما حصل قبل أيّام في كراكاس كان انقلابا. الأكيد أنّ رئيس مجلس النوّاب خوان غوايدو (35 عاما) خالف الدستور عندما أعلن نفسه “رئيسا بالوكالة” مستندا إلى أكثرية برلمانية تعارض الرئيس المنتخب نيكولا مادورو. في الواقع، كان الحدث انقلابا مدعوما أميركيا على رئيس غير شرعي استطاع أن يكون رئيسا للمرّة الثانية في انتخابات أجريت في أيار- مايو الماضي في غياب أيّ شفافية. وصل مادورو إلى الرئاسة خلفا لشافيز بالقوّة، بقوة التزوير، وأمّن لنفسه ولاية ثانية بقوّة التزوير أيضا.
تعيش فنزويلا منذ وصول هوغو تشافيز إلى السلطة في العام 1998 واقعا مأساويا لا يعبّر عنه الرقم الفلكي للتضخّم فحسب، بل تلك القبضة الأمنية التي سمحت بوصول مادورو إلى الرئاسة. كان إعلان غوايدو نفسه رئيسا بالوكالة، في انتظار انتخاب رئيس جديد في ظروف طبيعية، بمثابة حدث كبير. نزل مئات آلاف الفنزويليين إلى الشارع تأييدا للشاب اليميني المتحمس الذي أيدته دول مثل الولايات المتحدة وكندا والبرازيل والأرجنتين وكولومبيا وتشيلي. لكن مادورو لا يبدو مستعدا للتراجع والقبول بما يريده الشعب. لا تزال روسيا تدعمه. لا يزال الجيش معه. هناك رشوة يحصل عليها المنتمون إلى القوات المسلّحة وهناك كبار الضباط الذين يسيطرون على كلّ الموارد. الجنرالات يشغلون تسع وزارات أساسية بينها الدفاع والداخلية والزراعة والتموين. يسيطر الجنرالات أيضا على كلّ ما له علاقة بتسويق النفط والثروات المعدنية. إلى متى يبقى الجيش داعما لمادورو؟ ذلك هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه، خصوصا أن عائلات الجنود تعاني مما يعاني منه كلّ مواطن فنزويلي عادي.
ليس سرّا أن إدارة دونالد ترامب تريد التخلص من النظام القائم في فنزويلا. ليس معروفا إلى أيّ حد ستذهب في ذلك وهل ستستغل الحدث الفنزويلي لإلهاء الأميركيين عن الأزمة الداخلية التي يعاني منها الرئيس الأميركي. هذه الأزمة التي كان أفضل تعبير عنها اضطراره إلى تقديم تنازلات من أجل إعادة الحياة إلى مرافق الإدارة الأميركية وإن موقتا…
في كلّ الأحوال، هناك أزمة عميقة في فنزويلا. لا يحلّ هذه الأزمة ولا يعيد الأمل للمواطن العادي سوى موقف حازم من الجيش في ما يخصّ مصير مادورو. أمام الجيش فرصة للتخلي عن رئيس غير شرعي، والسهر على انتخابات حرّة والعودة إلى ثكناته.
لا أمل بحياة أفضل في أيّ بلد لا يكون فيه العسكر في ثكناتهم وليس في موقع من يتخذ قرارات سياسية واقتصادية… هل يحسم الجيش الفنزويلي أمره أم يختار إبقاء البلد في أزمة، ليس ما نشهده حاليا سوى فصل من فصولها؟