بصقة واحدة هي كل ما يتطلبه الأمر. تعدك الدعاية بأن هذا هو كل ما يجب عليك فعله حتى "تكتشف نفسك"، لا أن تعرفها فقط، أن تزيح التراب عن حفريات الماضي، وعن أسراره التي خفيت جيل بعد جيل، وبأن تصل إلى قارات مجهولة في تاريخ السلالة وقوانين الوراثة العائلية. بصقة واحدة في الأنبوب الذي سيصلك في الطرد البريدي، ستكون كافية لفتح نافذة على المستقبل، على الشيخوخة والمرض وصدف الطبيعة الكامنة داخلنا، فقليل من اللعاب هو كل ما نحتاجه لفك شفرات الحياة والموت المدفونة تحت جلودنا.
لم تعد "الشفرة الوراثية" أحجية ملغزة كما كان يوحي اسمها في الماضي، وما عادت نصاً معقداً لا يدركه سوى المتخصصين في أبجديته من كهنة العِلم. أما الهويات ومعرفه النفس، فلم تعد هي أيضاً سؤالاً اجتماعياً، ولا موضوعاً لفحص المحلل النفسي والكاهن والأديب، فكل هذا يمكن اكتشافه ببساطة في المعمل، وبواسطة طرد بريدي خفيف، في غضون أيام، وبكلفة متواضعة.
في نهاية آذار/مارس 2015، طرحت سلسلة صيدليات "سوبر درغ" أول "صندوق أدوات لتحليل الشفرة الوراثية" على أرفف في فروعها في بريطانيا. واحتاجت خدمة "التحليل الوراثي البريدي"، التي بالكاد كان قد سمع أحد بها حينها، عامين فقط، لتتحول إلى صناعة ضخمة، وشديدة التنافسية. ففي ليلة "الجمعة السوداء" العام 2017، حدثت واحدة من تلك المعجزات التسويقية الاستثنائية، وبيع أكثر من مليون ونصف المليون من "عبوات تحليل الشفرة الوراثية"، وبحلول الكريسماس من العام نفسه، كان حجم السوق قد قفز ثلاثة أضعاف عن العام السابق، بعدما اضحى "صندوق الأدوات" البريدي في لائحة الهدايا العائلية للعام الجديد. ولم يكن على متلقي الهدية المفاجئة، سوى أن يضع عينة من لعابه في أنبوب صغير، ثم يرسلها في طرد معد سلفاً إلى معمل التحليل. وكان للنتائج أن تصل إليه بالبريد الإلكتروني، بتفاصيل تحددها خيارات الشاري. وفي مطلع العام الماضي، كان العدد الإجمالي لمن شاركوا في خدمة التحليل الوراثي، قد وصل إلى 12 مليون شخص، معظمهم في الولايات المتحدة. وتنوعت الخدمات التي كلفت حوالى 150 دولاراً في المتوسط، بين بيانات عن الاستعداد الجيني للإصابة بأمراض وراثية بعينها، أو الكشف عن النسب وعلاقات القرابة، وكذا تركيبة الأصول الإثنية للفرد.
أضحى عيد الميلاد، بفضل خدمة التحليل البريدي، موسماً لسلسة من الأخبار الفضائحية وقصص انعطافات القدر المفاجئة التي التقطتها وسائل الإعلام الناطقة بالإنجليزية. "تحليل الشفرة الوراثية يكشف سراً عائلياً مدفوناً منذ 54 عاماً"، "كيف كادت الشفرة الوراثية أن تفسد الكريسماس؟"، "إن كنت ابناً بالتبني، هل يجب أن تجري تحليل الشفرة الوراثية؟".. كانت تلك بعض العناوين التي تم تداولها خلال الأسابيع الأولى من العام الحالي.
اكتشفت الكاتبة الأميركية، داني شابيرو، إنها ليست الابنة البيولوجية لوالديها، بعدما تسلمت نتائج التحليل، ونشرت مطلع الشهر الجاري مقالاً في مجلة "تايم" عن السر العائلي، وعن صدمة معرفتها بإنها ابنة بالتبني. وكانت كاتبة "الغارديان"، جورجينا لوتون، قد سبقتها العام الماضي، حين كتبت عن اكتشافها المذهل بأن أصولها ليست هندية، كما ظنت دائماً، بل من غرب أفريقيا.
تنوعت الأخبار التي تناقلتها وسائل الإعلام هذا العام، بين قصص اكتشافات لأقارب مجهولين على قاعدة البيانات الجينية، وعودة ابن تم تبديله في المشفى بعد ولادته، إلى أمه، بعد عقود من البحث، واعتراف زوجة أمام أسرتها بإن الإبنة البكر من رجل آخر. لكن الأسرار لا تأتي وحدها، فالسوق الشره كان في انتظارها. في الشهر الماضي، نشر موقع شبكة "إن بي سي" الإخبارية الأميركية، مقالاً بعنوان "لماذا ستكون سياحة الشفرة الوراثية هي الموضة الأكبر في العام 2019؟"، فالاكتشافات المفاجئة لأصول بعيدة، كان قد تم تلقفها من قبل شركات السياحة وخبراء الأنساب وأخصائيي التاريخ العائلي المحلي، الذين يقدمون باقة متكاملة لاكتشاف الأصول، ورحلات جماعية لإعادة الارتباط بالجذور الثقافية ولقاء الأقارب البعيدين. وكان موقع وكالة "فوربس" بدوره، قد نشر مقالاً، قبل شهور، عن نوع آخر من الخدمات، متعلق بالجانب المأساوي للاكتشافات المفاجئة، وقدمت كاتبته، إيلين ماتلوف، سرداً للخدمات النفسية والطبية المتوافرة لهؤلاء ممن تصدمهم اكتشافات الماضي البعيد، أو الاحتمالات الجينية للإصابة بالأمراض المستقبلية.
اليوم هناك واحد من بين كل 25 مواطناً أميركياً، استخدم خدمة التحليل الوراثي البريدية، ومن المتوقع أن تتضاعف الأعداد خلال الأعوام القليلة الماضية، حيث تسعى الشركات المقدمة للخدمة إلى توسيع قاعدة بياناتها حول العالم. يثار الكثير من اللغط عن المخاطر المتعلقة بالخصوصية وسرية البيانات، وعن احتمالات سوء الاستخدام المستقبلي لشبكات المعلومات الجينية. وتحوم طعون كثيرة حول الأسس العلمية لتلك التحليلات التجارية، ومدى دقة الاستنتاجات المستنبطة منها. لكن، رغم هذا كله، فإن شفرات الوراثة البريدية تبدو قادرة، أكثر من أي شيء آخر الآن، على إثارة الرغبة العميقة في الكشف، وغرائز حب الاستطلاع الجماعية، التي تهمين على عصر مهووس بقيم المعرفة والحقيقة والنظام.
غالباً، ستتوسع خرائط البيانات الجينية، وربما تشمل الكوكب كله في المستقبل القريب جداً، مدفوعة بدورات رأس المال الشرهة وبحس تراجيدي راغب في مواجهة المأساة والبحث عن الأصول. وفي كل هذا، ستطرح أسئلة جديدة كل الجِدّة، عن الأخلاقي والسياسي والروحي، لا تتعلق بالفرد فقط، بل بالأحرى بالهويات الجماعية وتاريخها وحدودها، وبالطبع عن المعرفة ومن يملكها.