قال جبران باسيل وزير خارجية لبنان، تعليقاً على القمة الاقتصادية العربية ببيروت، التي لم يحضرها من الرؤساء غير الرئيس الموريتاني، وأمير قطر لمدة ساعتين: أمير قطر كسر الحصار على لبنان، ولبنان كسر الحصار على قطر! ولبنان ليس محاصراً لكي ينفكَّ عنه الحصار، أما قطر فبينها وبين أربع دول عربية خلافات في السياسات والأمن؛ ولذلك فإنّ هذه الدول تقاطعها. فلا قطر محاصَرة، ولا لبنان مُحاصَر. فلماذا إذن هذه الدراماتيكية الدائمة في تصريحات باسيل وتصرفاته؟! لبنان محاصَر بسلاح الحزب الإيراني، الباسط الذراعين على أرضه والمستولي على المطار والمرفأ والمؤسسات الكبرى، والمعطِّل لتشكيل الحكومة لثمانية أشهر ونيف. ولأنّ باسيل لا يريد أو لا يجرؤ على قول ذلك أو الإقرار به، وضع المسؤولية على دول الخليج وسائر العرب، الذين حضروا جميعاً وإن لم يحضر الملوك والأمراء والرؤساء، بل ونعرف الآن أن ثلاث دول عربية خليجية هي التي موَّلت إعدادات القمة. ولكنّ الوزير باسيل أراد إغاظة العرب مرتين: مرة باعتبار غياب الرؤساء حصاراً للبنان، ومرة باعتبار دولة قطر كاسرة للحصار! فهذه مشكلة ما كانت موجودة وقد أوجدها باسيل ورماها على غيره رجاء إرضاء الحزب المسلَّح. بيد أنّ غياب الرؤساء والملوك يتحمل عبأه باسيل ورئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وقائد الجيش... ورئيس مجلس النواب. فعندما نزلت ميليشيات الرئيس بري لنزع وإحراق أعلام ليبيا ووضع راية حركة «أمل» محلَّها، ما هبَّ أحدٌ ولو بالكلام لمواجهة هذا التصرف الميليشياوي. ولذلك من حقّ الحكّام العرب، ما دام أنه لا أمن ببيروت، ألّا يأتوا بأنفُسهم: ألم يكن الأمر يستحق إظهار الحرص على أمن القادمين، بمنع الإساءة إلى دولة عربية دُعيت لحضور القمة؟ والرئيس بري كان هدفه منع إقامة القمة إرضاءً للأسد الذي لم يُدْعَ، فكيف يكون العرب الذين لبَّوا جميعاً دعوة القمة وموَّلوا انعقادها هم الذين يحاصرون لبنان؟!
وإلى هذا وذاك، بذل باسيل جهوداً حثيثة لكي لا تنجح القمة عملياً بمحاولة تجييرها لأهدافٍ خاصة تُرضي الأسد ونصر الله وبري وتخدم مستقبلهم. والرئيس ميشال عون تحدث في خطابه عن غياب سوريا بحرارة ولوعة، وجبران باسيل كاد يهلك من لوعة الغياب. واقترح الرئيس بنكاً للتنمية وإعادة الإعمار، والمقصود الإعمار السوري. وأرغم باسيل الجميع على إصدار وثيقة بشأن اللجوء السوري، مقترحاً أن يتابع الدوليون عطاءاتهم للمهجّرين بعد عودتهم أو يشترطوا ألّا يساعدوهم إلاّ إذا عادوا! وكل هذا وعون وباسيل لا يعرفان إذا كان حبيبهما الرئيس الأسد يريد عودة مواطنيه أو يسمح بذلك! وأنا أتوقع أن يذهب باسيل إلى دمشق قريباً، وقد يذهب الرئيس أيضاً.
يتحمل الرئيس بري وجبران باسيل المسؤولية عن انخفاض التمثيل في القمة. أما خلال القمة وبعدها فرئيس الجمهورية وجبران باسيل هما اللذان جعلا القمة تقتصر في نتائجها على الخمسمائة مليون دولار التي أعلنت قطر عن مشاركتها بها في شراء سندات خزينة لدعم المالية والاقتصاد في لبنان. وهو أمرٌ كان يمكن أن يحصل من دون الحاجة إلى القمة فلا يبقى من القمة غير لوعة الرئيس وباسيل لأنّ الأسد لم يحضر!
لماذا قلنا من قبل إنّ باسيل يصطنع المشكلات ثم يرميها على عواتق الآخرين من المرتكبين والمتآمرين؟ بالطبع، إنّ علة الوضع الفظيع الذي يجد لبنان نفسه فيه: الميليشيا الإيرانية واستيلاؤها على قرار الدولة ومؤسساتها. وفي السنتين الأخيرتين بل قبل ذلك عندما كان فريق الرئيس عون مشاركاً في الحكومات، صار هناك تقاسم: السياسات العامة للدولة، وقرارات المؤسسات والجيش والقوى الأمنية، ونصف الوظائف العامة، كلها للفريق الشيعي. والقسم الثاني المشترك بين المسيحيين والسُنة والدروز، يصارع الوزير باسيل على «استكمال» حصة المسيحيين المهضومة فيه، وأخذ خصص من السنة وأحياناً من الدروز. أما الصفقات الكبرى في الوزارات والمؤسسات فحدِّثْ ولا حرج، وما قصّر لهذه الناحية أي فريق، وإن تفوق فريق وزير الخارجية ولا يزال.
عندما كان يحدث اختلالٌ خلال عقود النزاعات اللبنانية في إحدى المؤسسات الدستورية، يعتمد اللبنانيون، مسيحيين ومسلمين، على المؤسستين الأُخريين. وقد تبين منذ عام 2006 أن رئيس مجلس النواب لم يعد حراً، حين أقفل المجلس لأكثر من سنة ونصف، بقرارٍ من «حزب الله». ولا يزال هذا ديدنه، كما حصل قبل القمة الأخيرة، عندما استخدم وهو رئيس مجلس النواب ميليشياه الخاصة لتعطيل انعقاد القمة، مهدِّداً بإعادة احتلال العاصمة! ولذلك بقيت المؤسستان الأُخريان. وقد خلا منصب الرئاسة مرتين لفترة قصيرة أو طويلة: عندما كان الرئيس السنيورة رئيساً للحكومة، ثم عندما كان الأستاذ تمام سلام رئيساً للحكومة. وقد سلك الرجلان مسلكاً دقيقاً ومتوازناً بحيث ما شكا أحدٌ من شيء مُخلٍّ بالحقوق الطائفية أو المذهبية أو علاقات لبنان العربية والدولية. لكنْ مع انتخاب الرئيس عون ظهر اختلالٌ بارزٌ سواء في العلائق بين الفرقاء بالداخل اللبناني أو في علاقات لبنان العربية والدولية. فعندما جرى الاعتداء في طهران وأصفهان على السفارة والقنصلية السعودية، أبى جبران باسيل الإدانة أو الاستنكار، مع أنّ الحكومة الإيرانية نفسها زعمت أنها ستحاكم المعتدين! ويمكن إيراد قَصصٍ كثيرٍ عن مواقف باسيل تجاه السعودية أو الإمارات أو العرب بشكلٍ عام. ومن جهة أُخرى برز الخلل في تعطيل القرارات الدولية التي تحمي لبنان؛ إذ دأب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية (وأحياناً رئيس الحكومة!) على الزعم بالحاجة إلى «حزب الله» لأن الجيش ضعيف، أو لأنّ الحزب لا يستخدم سلاحه في الداخل، أو لأن مسألة الحزب إقليمية لا يستطيع لبنان حلَّها، وهو باقٍ حتى نهاية أزمة الشرق الأوسط. ولذلك، وفي كل مرة يجتمع فيها مجلس الأمن للتجديد للقوات الدولية أو مناقشة التوتر على الحدود؛ فإنّ اللوم يجري توجيهه إلى لبنان لعدم تنفيذ القرارات الدولية، وقد جرى مرتين تخفيض الإنفاق أو الأعداد، لأنّ لبنان لا يُظهر حرصاً شديداً على حماية حدوده!
ما تعوَّد لبنان على هذا الاختلال في علاقاته الداخلية والعربية والدولية، والآن: الاختلال في أوضاعه المالية والاقتصادية. وذلك باستثناء أواخر عهد الرئيس كميل شمعون في الخمسينات، والذي أراد التمديد، وانحاز لحلف بغداد. ويزيد من القابلية للاختلال ليس الانحياز لسلطة الميليشيات أو العجز أمامها وحسْب؛ بل طموح جبران باسيل، صهر الرئيس، أن يخلفه في الرئاسة. وبالنظر إلى ذلك كلّه، تطلع اللبنانيون والعرب والدوليون إلى رئيس الحكومة لاستحداث شيء من التوازن والهدوء، والصدقية تجاه المواطنين والعرب والدوليين. لكنه عجز عن تشكيل الحكومة لما يقارب الأشهر التسعة. وبدا أنّ الجميع يشاركون في التشكيل، وبخاصة الرئيس وباسيل وحتى مدير الأمن العام؛ ويأتي هو رابعاً أو خامساً في الحماس لذلك. وبالطبع فإنّ عوائق التشكيل هي عند الحزب وباسيل، لكنّ الرئيس المكلَّف يتجنب ذكر الحزب، ويعلن في كل مناسبة تحالفه الوثيق مع باسيل. وخلال القمة وعندما كان باسيل يضع سياسات للعلاقة مع سوريا، وإعادة اللاجئين السوريين، لاحظ وزير المهجرين في حكومة تصريف الأعمال معين المرعبي، أنه ليس من حق باسيل ذلك، لأن السياسات تجاه سوريا والمهجرين يضعها مجلس الوزراء؛ وبعد قليل صرَّح باسيل بأن الحريري اتصل به وقال له إنه يؤيده، وضد ما قاله المرعبي. وكأنما ارتاع الرئيس المكلف من ردة فعل المسلمين لاعتقادهم أن زعيمهم غيَّر سياساته وهو ماضٍ مع باسيل إلى سوريا، فقال مكتبه إنه لم يقل لباسيل إلاّ أن المرعبي ما اتصل به قبل تصريحه!
وطنٌ تفرق أهله فتقسَّما
ورجاله يتشاجرون على السما
والهر في أوطانهم يستأسدُ