... مواجهة جديدة بين الغرب والشرق مسرحها أميركا اللاتينية؟ خليج خنازير جديد؟ حرب أهلية دامية؟
ها هي فنزويلا تسقط في دوّامة لعبة الاستقطاب العالمي، بين من لا يستطيعون أن يقدّموا لرئيسها المطعون بشرعيته سوى الدعم الكلامي مع قليل من القروض، وخصوم له يحاصرونه سياسياً ويعترفون بزعيم المعارضة رئيس البرلمان رئيساً مؤقتاً.
لا بدّ من القول إن الرئيس نيكولاس مادورو تسلّم عبئاً ثقيلاً من سلفه هوغو شافيز الذي رحل عام 2013 بعد 11 عاماً في السلطة تحوّلت البلاد خلالها من مكان جاذب لرؤوس الأموال والاستثمارات والمهاجرين إلى العكس تماماً، واليوم يفرّ أبناؤها بأي وسيلة تتاح لهم إلى البلدان المجاورة بحثاً عن ملاذ يوفّر لهم لقمة العيش بالمعنى الحرفي للكلام.
كانت فنزويلا تتمتع بأغنى اقتصاد في أميركا اللاتينية، بفضل احتياطات نفطية ضخمة. إلا أن عهد شافيز وبعده عهد مادورو "الاشتراكيين" هدما كل شيء بسبب سوء الإدارة والفساد وتراكم الديون وتدهور الإنتاجية. ومنذ تسلّم السلطة فقد البوليفار الفنزويلي رسمياً نحو مائة في المائة من قيمته أمام الدولار الأميركي، وأكثر من ذلك بكثير في السوق السوداء. أما التضخّم فيقدّره خبراء مستقلّون بما يفوق 1600 في المائة!
وأدى هذا النزف إلى هجرة قسرية لمليون و600 ألف فنزويلي منذ العام 2015. وهم لا يلامون، فأولادهم يموتون جوعاً بسبب غياب الغذاء والدواء، وقدرتهم الشرائية تتبخّر أياً كانت أعمالهم ومداخيلهم، مع الإشارة إلى أن 87 في المائة من الفنزويليين البالغ عددهم نحو 32 مليون نسمة كانوا تحت خط الفقر عام 2017، ولا شك في أن النسبة أعلى الآن.
المهمّ أن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي بدأت عام 2010 حين أعلن شافيز خوض "حرب اقتصادية" ليستنفر طاقات شعبه في وجه الضائقة، تفاقمت منذ العام 2015 في عهد مادورو خصوصاً مع تراجع أسعار النفط.
ويقول تقرير لمؤسسة بروكينز الأميركية البحثية المرموقة إن "فنزويلا أصبحت بحق نموذجاً لما يؤدي إليه مزيج الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية والحكم غير الديمقراطي من معاناة واسعة النطاق".
وقد فشلت الدولة في العهدين في التعامل مع الأزمة أو حتى تلطيفها. فلم تضع الخطط اللازمة لخفض الإنفاق من جهة وزيادة الإنتاجية من جهة أخرى. بل تعاملت مع الأزمة بإنكار وجودها واللجوء إلى قمع المعارضة بعنف. وكأن البطش السياسي كفيل بإنهاء النقص المزمن في الغذاء والدواء، ومنع إفلاس الشركات، ومكافحة البطالة...
في ظل هذا الوضع، كان من الطبيعي أن تتدهور الأمور أكثر، لأن مادورو بقي "التلميذ النجيب" لشافيز، وواصل سياساته بأمانة، مستمراً في خوض "الحرب الاقتصادية" التي يستحيل ربحها...
الآن وصلت فنزويلا إلى لحظة الحقيقة والمواجهة بين "الرئيس" نيكولاس مادورو و"الرئيس" خوان غايدو... الأول يتّكل على الجيش والثاني على الشعب. الأول "اشترى" ولاء العسكر بتسليمهم منذ سنوات المقدّرات الاقتصادية للبلاد، والثاني مسلّح بشرعية الناس، وهذه معادلة تقود غالباً إلى حرب أهلية يربحها الجيش حتماً إذا بقي متماسكاً خلف مادورو، أو ربما أمامه إذا قرر القيام بانقلاب عسكري وتسلّم وزير الدفاع الجنرال فلاديمير بادرينو لوبيز السلطة مباشرة...
لكنْ ألا يعلم القابضون على ما بقي من زمام الأمور في فنزويلا ما حلّ بالأنظمة العسكرية الأخرى في أميركا اللاتينية؟