يعمل الرئيس سعد الحريري على "النضال" بصمت. يكاد يقول في سرّه: "فصرت إذا أصابتني سهام، تكسّرت النصال على النصال". لم يعد بمقدور الحريري النوم ملء جفونه عن شواردها. غدا الساهر القلق جراء ما يتعرض له، ويختصم. يختصم مع نفسه، مع محيطه، ومع حلفائه. وهذا ما أدى إلى نوع من التشرذم، دفعه إلى اتخاذ سلسلة قرارات سياسية وتنظيمية. قرأ الحريري الطالع باكراً. عرف مصلحته، وحضوره السياسي أين وكيف يكمن. طوال خمس عشرة سنة، يتعرّض الحريري لضربات تلو الضربات، من الحلفاء قبل الخصوم.
التغير النوعي
هو الرأسمالي الذي أكثر من انطبقت عليه إحدى أبرز المعادلات اللينينية الماركسية. "التراكم الكمّي يؤدي إلى تغيير نوعي". من فرط التراكم المؤامراتي، وتراكم الضربات والطعنات التي تعرّض لها، لم يجد الحريري نفسه إلا مضطرّاً للذهاب نحو خيارات فيها تغيير جذري. قُطعت عنه إمدادات الدعم المالية والسياسية. أُقحم في صراعات داخلية، سابقاً، كان فيها الحلقة الأضعف. وأسهمت في إضعافه وصولاً إلى محاولة كسره سواء في 7 أيار 2008، أو في تسوية سين - سين 2009.
غاب عن لبنان لسنوات، وغاب حضوره السياسي، إلى أن أفضى التراكم الكمّي إلى اتخاذ قرار بالتغيير النوعي، اتخذ قرار الحوار مع حزب الله، والتمهيد لتسوية من خلال حكومة الرئيس تمام سلام، لتنجز التسوية الكاملة فيما بعد، بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، وعودته رئيساً للحكومة. هذا التغيير النوعي، ارتكز فيه الحريري على الخصوم بدلاً من الحلفاء. وهذا الارتكاز هو الذي أعاده إلى موقعه السياسي وإلى أداء دوره. وحتى في غمرة تسويته، جاءته الضربة باستقالته (القسرية) من الرياض. ومن يومها، أسهم المزيد من هذا التراكم، في التغيير النوعي لديه. وسّع شبكة حمايته الدولية والداخلية، التي استمر في تعزيزها محلياً، إلى الأمس القريب، بادعائه أن تحالفه مع التيار الوطني الحرّ "جنّن كثيرين". هكذا، يحمي الحريري نفسه من أي طارئ، بالاستناد إلى خياراته الداخلية.
بين الرياض ودمشق
تحدق بالحريري مخاطر عديدة وضغوط كثيرة، خصوصاً على أبواب استعادة النظام السوري لأنفاسه، واستئنافه لمحاولة استعادة نفوذه في لبنان. حتى الآن يرفض الحريري أي تطبيع. وحين سئل قبل فترة إذا ما كان سيذهب إلى سوريا، قال إنه لن يفعل، ولو تغيّرت الظروف الإقليمية. في إشارة منه إلى تغيّر مواقف حلفائه الإقليميين. لم يكن الانفتاح العربي على دمشق وليد فراغ أو صدفة. ثمة أمر واقع أرادت بعض دول الخليج السير به، على قاعدة "العودة إلى سوريا لتحجيم النفوذ الإيراني فيها"، وأيضاً استعادة المبادرة من بوابة إعادة الإعمار وضخ الأموال. جاءت خطوة دولة الإمارات في فتح السفارة في دمشق، وكان من المفترض أن تحذو المملكة العربية السعودية الخطوة ذاتها. لكن البرنامج تغيّر، بفعل بعض التطورات الدولية (التحفظ الأوروبي والرفض الأميركي). إنما هناك من يعتقد أنه مهما تأجل الأمر فهو سيحدث. والدليل هو الموقف الأميركي الواضح بتصريح ترامب الشهير عن تمويل دول الخليج لإعادة الإعمار في سوريا.
إنها مرحلة جديدة مقبلة، ستُفتح فيها الأبواب على كل الاحتمالات، فالنظام السوري بحاجة إلى المال وإلى إستعادة شرعيته عربياً. والسعودية أيضاً ستكون بحاجة للعودة إلى المشهد السوري، من البوابة الاقتصادية والسياسية، بعد الغياب العسكري والميداني، وفق نظرية عدم ترك الساحة لإيران. وبلا شك أن كل خطوة سيكون لها ثمن.. على النظام السوري أن يدفعه، مقابل أن ينال ما يحتاجه.
بهاء الحريري في سوريا
واللافت، أنه بالتزامن مع انعقاد القمّة الاقتصادية في بيروت، كان وفد من رجال الأعمال السوريين يزور دولة الإمارات العربية المتحدة، في مؤشر واضح على تطوّر الأمور. وهناك من يعتبر أنه لا يمكن أن تكون هذه الخطوة بلا أي تنسيق إماراتي سعودي، ولو أن السعودية لا تريد أن تكون في الواجهة، في هذه المرحلة. وفي هذا السياق، تبرز معلومات حول زيارة بهاء الحريري إلى سوريا، بصفته رجل أعمال طامحاً للمشاركة في إعادة الإعمار. هذا الخبر يتلقاه بعض "المستقبليين" في بيروت بقلق، ويعتبرون أنه من المستحيل أن يكون قد حدث ذلك من دون تنسيق مع السعوديين. وهذا سيشكّل عامل ضغط على الرئيس الحريري. وأيضاً سيدفع خصوم الحريري إلى الرهان على هذا الضغط، لممارسة المزيد من الضغط عليه من قبلهم، بغية استقطابه إلى جانبهم. وأكثر من ذلك، هناك من يعتبر أن خطوة بهاء باتجاه سوريا، قد لا تنفصل عن ما نُسج خلال استقالة الحريري في الرياض. وقد يكون وجه آخر من المسألة.
حتى الآن، يعتبر الحريري أن ما يقوم به شقيقه بهاء هو عمل تجاري ومالي، وليس عملاً سياسياً. ولكن أي تحرك لبهاء الحريري، قد يدفع سعد إلى اتخاذ قرارات مختلفة بشكل جذري، سواء بتعزيز علاقته مع عون وباسيل، أو بتعزيز العلاقة مع حزب الله، بالإضافة إلى البحث عن مظّلة أمان أوسع دولياً، من خلال علاقاته بالفرنسيين والأميركيين، وغيرهم. وهو قبل يومين سئل عن موقفه من مواقف باسيل تجاه النظام السوري، فأكد أنه لم يغيّر موقفه، ويعارض القيام بأي إجراء أو خطوة تجاه النظام السوري، ولن يحصل شيء على صعيد العلاقات اللبنانية السورية، قبل اتخاذ قرار جامع في الجامعة العربية. يقود هذا الكلام البعض إلى اعتبار أن الحريري تعرّض لضغوط من حلفائهن بغية تحسين علاقته مع النظام، لكنه رفض ذلك أيضاً.
يلام الحريري على خطوات وقرارات سياسية كثيرة اتخذها. يراها البعض في أنها أفقدته جزءاً من شعبيته. لكن ربّما المكتوي بالنار غير الناظر إليها. وهو لطالما كان على قلق كأن الريح تحته. والريح غدّارة، فتجري بما لا تشتهيه السفن. والحريري مجدداً، يجد نفسه أمام خيار لا بد منه، بأن يُجري رياحه، كما تشتهي سفينته، وأن يرتجي شيئاً بهمّتهِ، ليلقاه لو حاربته الإنس والجن.