يوم حمل وليد جنبلاط ورقة صغيرة في جيبه، وتوجه إلى قصر بعبدا للقاء الرئيس ميشال عون، وترتيب العلاقة مع العهد.. كان يفكّر فيما هو أبعد من تفاصيل الحصة الوزارية، أو الحقائب أو مقعد الحزب الديمقراطي اللبناني. استجمع جنبلاط يومها، كل مواقفه تجاه العهد واتجه إلى بعبدا لإزالة أي التباس. مستنداً على شراكته في التسوية الرئاسية، وبأصوات كتلته التي صوتت لصالح انتخاب عون. وهو موقف، لا بد من المعنيين به عدم نسيانه، لحظة الدخول إلى البيت الدرزي. راعى جنبلاط في الزيارة ظروف عون ومتطلباته، سحب الورقة من جيبه وسلّمه إياها، متنازلاً عن المقعد الدرزي الثا،لث الذي كان عون يطمح إلى منحه لمن يمثّل النائب طلال ارسلان.
سياسات ضيقة
أراد من خلال الخطوة طي صفحة الخلاف، بعد تجاوزه لأوصاف أطلقها تجاه العهد، اختصرت جميعها بأنه فاشل. صباح الثلاثاء يغرّد جنبلاط بأنه "حزين على ما تبقى من هذا العهد القوي". في تعبير عن استيائه من توجيه دعوة للشيخ ناصر الدين الغريب إلى القمة الاقتصادية، ما يعتبره جنبلاط تدخلاً في الشؤون الداخلية الدرزية، وعاملاً مساعداً على تزكية الإنقسام، الذي تسعى إليه بعض الأطراف، بإيحاء من النظام السوري، لإعادة إنتاج شيخين للعقل. وبالتالي دخول رئاسة الجمهورية في سياسات ضيقة، هدفها الضغط على الدروز، أو التشويش على شيخ العقل نعيم حسن.
كان جنبلاط خلال زيارته إلى بعبدا، يقرأ في أبعاد استمرار الخلاف بينه وبين القصر الجمهوري، وما يمكن أن يستغلّه البعض في تطويق المختارة أو استفزازها. فلجأ إلى ما هو أبعد، من خلال إبرام تفاهم جديد مع رئيس الجمهورية، استُكمل فيما بعد بلقاء مع الوزير جبران باسيل في كليمنصو، لتعزيز التنسيق بين الطرفين، وتجنّب أي توتّر سياسي في الجبل. لكن، فيما بعد استمرّت محاولات استفزاز جنبلاط، على نحو لم تقف عند مسألة توزير ممثل عن إرسلان، وفق ما سيختاره رئيس الجمهورية من لائحتي الأسماء التي قدّمها إليه كل من جنبلاط وإرسلان.
اختراق الجبل
استشرف جنبلاط الرسائل باكراً، وكان على يقين بأن هناك ما وراء الأكمة، فلذلك لا بد من تعزيز العلاقة مع مختلف القوى الداخلية وإن كان هناك خصومة معها، لسدّ الأبواب أمام محاولات النظام السوري في التسلل إلى البيئة الدرزية، سعياً وراء الإنتقام. لكن المحاولات لم تقف عند هذا الحدّ. جاءت عراضة الشوف التي قام بها شبان محسوبين على النظام السوري، وأرادوا الدخول إلى المختارة في خطوة استفزازية. يومها حرّك جنبلاط اتصالاته مع المعنيين، لتجنّب أي حادثة أمنية في الجبل، ونجح الجيش يومها في تطويق ذيول المسألة، وأوقف عدداً من هؤلاء الشبان. بعدها بيومين، حصلت حادثة الجاهلية، التي عرف النظام السوري كيفية استثمارها جيّداً، فعمل على تجميع كل القوى المناهضة للمختارة، ووصل ما انقطع بين حلفائه الدروز، لا سيما بين طلال ارسلان ووئام وهاب، لتقديم صورة وكأن النظام نجح في اختراق الجبل.
رسائل متتالية
استمرّ الرسائل بالتوالي، فيما جنبلاط كان يفضّل عدم التعاطي معها، ليبدأ التحضير من قبل النظام السوري وحلفائه لسلسلة إجراءات، من شأنها استفزاز المختارة، فتجلّى ذلك في إعادة إبراز الخلاف على مشيخة العقل، وتظهير دور للشيخ ناصر الدين الغريب المحسوب على إرسلان، لضرب الوحدة الدرزية، والتعويض عن محاولة الإختراق التي فشلت في الإنتخابات النيابية. وهذا ما يعتبره الحزب الاشتراكي أنه محاولة فاضحة من قبل النظام السوري، من أجل شق الصفوف، واستهداف جنبلاط.
استمرّ التطويق في القمّة الإقتصادية، عبر توجيه الدعوة للغريب إلى جانب الشيخ نعيم حسن. وانسحب ذلك على عدم تلقي الوزراء الدروز أي دعوة للمشاركة في عداد الوفد اللبناني في القمة، بل وجهت دعوة فقط للوزير مروان حمادة، بصفته رئيساً للجنة نيابية، ليكون مشاركاً بصفة الحضور، وليس من عداد الوفد، ما دفعه إلى المقاطعة. هذه الرسالة يقرأها جنبلاط جيداً، ويعتبرها تندرج في سياق تسديد الحسابات للنظام السوري، إذ يغرّد قائلاً: "إن بيان رئاسة الجمهورية حول دعوة شيخ آخر الى جانب الممثل الشرعي للطائفة الشيخ نعيم حسن لحضور القمة العربية غير مقنع لا بالشكل ولا بالمضمون. لكنه يبدو جزءاً من تسديد فواتير مسبقة وتبييض الوجه أمام النظام السوري وحلفائه. لكن لن أسترسل أكثر من ذلك وأحزن على ما تبقى من هذا العهد القوي". وأضاف: "وعطفاً على بيان الرئاسة لا داعي للرفاق والمناصرين بالدخول في سجالات جانبية، وتوترات نحن بغنى عنها. فليكن التركيز على خطورة الوضع المالي وكيف جرى تصنيف إضافي سلبي للبنان نتيجة العقبات التي وضعت امام تشكيل الحكومة الداخلية والخارجية منها".
الانتقام من جنبلاط والحريري
يواجه جنبلاط محاولة التطويق بصمت وعمل. للغاية ذاتها، التقى الأسبوع الفائت الرئيس سعد الحريري، لتبديد أي خلاف أو ضبابية في العلاقة بينهما، كما أنه ذهب إلى الحريري بوجهة نظر أن ما يتعرّض له الدروز يتعرّض له السنّة أيضاً، من خلال فرض توزير قوى خارجة عن المستقبل، بالإضافة إلى إستفزازات أخرى، ثابتها الوحيد أن النظام السوري يسعى إلى تعزيز أوراقه والإنتقام من الرجلين معاً، آخرها التلويح بالضغط على الحريري وإسقاط تكليفه أو تنفيذ إنقلاب عليه". فكان اللقاء فرصة للتأكيد على أهمية التنسيق بين الطرفين وتعزيز العلاقة بينهما.
يخوض جنبلاط والحريري معركة واضحة، وهي مواجهة الضغوط المفروضة من قبل النظام السوري. تارة تُفتعل عبر اختراق صفوف بيئتهما، وتارة أخرى عبر إثارة الخلاف على الصلاحيات. وهذا المسار نجح فيه خصومهما، يوم تخلّيا عن نبض الشارع، لصالح التسويات السياسية. وبسبب عدم دفاعهما عن مكتسباتهما التي استمداها من التفويض الشعبي لسنوات عشر خلت، في الإنتخابات النيابية. لتأتي الانتخابات الأخيرة، وتمنح الأكثرية لحلفاء النظام السوري. وهذا تلقائياً سيقود إلى فتح الصراع على الصلاحيات، خصوصاً أن الحريري وجنبلاط لم يعودا يمتلكان الأرض كما كان الحال أيام 14 آذار.
استعادة الأرض
هنا، يقرأ أحد المسؤولين البارزين، في التطورات الحالية، مقارناً إياها بمرحلة ما قبل العام 1975. حينها كان كمال جنبلاط يسيطر على الأرض وعلى التوجهات الشعبية، وبالإستناد إلى هذه القوة، كان يستطيع فرض رؤيته وتحقيق مقارباته السياسية، مع العلم أن ليس لديه أي صلاحية دستورية بموجب التركيبة السياسية للدولة. وهذا دليل على أن الصلاحيات ليست وحدها التي تمنح الدور.
اليوم هناك افتقاد للأرض وللصلاحيات معاً، ولا يمكن التعويض عنها إلا من خلال استعادة الأرض. تلك الاستعادة يمكن تحقيقها من خلال عنوانين أساسيين، التوجهات المطلبية للناس والشارع، والتحركات المناهضة لمحاولة عودة النفوذ السوري إلى لبنان. هذه تحتاج إلى قرار وجرأة، وليس بالضرورة أن تؤدي إلى صراع سياسي مع حزب الله مثلاً، إنما وفق قواعد ربط النزاع، والتعبير عن الرأي واستعادة الشعبية والشرعية السياسية، وفرض معادلات جديدة.