انتهى الغموض. ما كان معلوماً ومستوراً، أصبح معلوماً ميدانياً ورسمياً. المواجهة في سوريا أصبحت علناً بين إسرائيل وإيران. حتى الآن لا يريد كلاهما السقوط في وادي نار الحرب الشاملة. المأزق الكبير أنه لا توجد في مثل حالة الجبهة السورية أي ضمانة لعدم الانزلاق نحو النار الشاملة. يوجد حالياً طرفان يتصارعان على الوجود والنفوذ. من الطبيعي جداً في مثل هذه الحالة أن يذهب الطرفان نحو «التنمّر»، وفي لحظة معيّنة تختلط الأمور فتقع الكارثة. ما يُقلق في كل المشهد أن الحرب ستجري في دائرة، الإسرائيلي فيها محشور جداً لأنها ستتناول الداخل عنده. في حين أن الإيراني سيخوضها فوق مساحة سوريا المُدمّرة أصلاً، والتي لا تعنيه أكثر من كونها قاعدة نفوذ له. السؤال: هل يتحمّل الإسرائيلي الخسارة من دون أن ينقل المعركة بعيداً عن حدوده، أي إلى الداخل الإيراني؟ وماذا سيحصل إذا وقع هذا؟ وكيف ستتطوّر مثل هذه المواجهة؟
السؤال الواقعي، إذا كانت إسرائيل وإيران لا تريدان الحرب الشاملة في ظلّ عدم قدرة أحدهما على تقرير اتجاه تطوّر الأحداث، فلماذا عمدت القوات الإيرانية «المستشارون» إلى إطلاق الصاروخ على مركز التزلّج الإسرائيلي، ولماذا سارعت إسرائيل للردّ بهذه القوّة؟
إيران أرادت كما يبدو اختبار خصمها، وإلى أين يمكن أن يصل. الآن عرفت بدقّة ماذا يمكن أن يحصل، فماذا ستفعل لاحقاً، خصوصاً أن قائد سلاح الطيران الجنرال عزيز نصير زاده سارع إلى القول: «إن الشبّان في القوّات المسلحة مستعدون تماماً وينتظرون بفارغ الصبر مواجهة النظام الصهيوني ومحوه من على وجه الأرض». انتظار الإيراني بصبر يمكن أن يطول كثيراً مثلما يطول صبر حائك السجاد سنوات حتى تنتهي عائلته من العمل ليبقى له تحديد القطبة الأخيرة. لكن هذا الصبر يتطلّب هذه المرّة الصبر الإسرائيلي، وهو صعب جداً. لأنه يتحرّك في دائرة مفتوحة عمادها:
* أن الحرب في سوريا في نهاياتها وليست كما كانت في السابق. ولذا لا يمكنه الجلوس هادئاً لأن سوريا تتشكّل من جديد وهو، أي الإسرائيلي، يريد أن يكون حاضراً وشريكاً في هذه العملية.
* أن روسيا ضالعة في حماية الرئيس بشار الأسد ونظامه إلى درجة أنها لم تتابع تنفيذ التعهّد الإيراني بالابتعاد عن الجولان وإسرائيل مسافة تراوح بين 40 كلم ومائة كلم.
* أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجديد الجنرال كوخافي طليق اليدين أكثر من سابقه الجنرال ايزنكوت، وهو هجومي أكثر، من دون أن يضطر للخضوع لوزير مثل ليبرمان حيث حساباته عديدة ومُتشعبة، أبرز ما فيها مراعاة علاقاته الروسية.
التركيز الإسرائيلي في الإعلان عن الغارات على «فيلق القدس»، ليس اعتباطياً وإنما هو للتشديد على وضع حدود للمواجهة. ما يعني إسرائيل الوجود الإيراني في سوريا. الجنرال سليماني رمز للتوسّع الإيراني في سوريا، خصوصاً أن الجنرال الإيراني دائم التواجد في "المثلث الميداني" سوريا ولبنان والعراق، والهدف من ذلك تثبيت الوجود الإيراني العسكري وتوسيعه، خصوصاً ما يتعلق بمخازن ومعامل السلاح. ما يؤكد ذلك أن البيان العسكري الإسرائيلي شدّد على أن الغارة استهدفت مخازن السلاح في مطار دمشق. طبعاً هذه الغارة لن تخيف الجنرال سليماني، لكن ستدفعه إلى مراجعة خططه في إطار الاستراتيجية التي وضعها تحت إشراف المرشد آية الله علي خامنئي والتي في أساسها تقوم على الانتشار خارج الحدود الإيرانية، حتى يبقى الداخل الإيراني بعيداً عن الحرب، خصوصاً في مرحلة المقاطعة والحصار من جهة، ومن جهة أخرى الإكثار من إمساك «الأوراق» المهمّة للمفاوضة من موقع القوّة والقدرة على المقايضة من «كيس» الآخرين.
في كل ذلك تواجه إيران «عقدة» مهمّة وصعبة، وهي كيف تتجنّب الدخول في خلاف ولو محدود مع روسيا. لقد أدخل المرشد آية الله علي خامنئي، بيده «الدب» الروسي إلى سوريا. وهو الآن مضطر جداً لمراعاة هذا «الدب» الضخم الذي بطبيعته يتحرّك دائماً في مساحة مفتوحة، وليس في دائرة محدودة ومحدّدة لا تتّسع لآخرين يعتبرون وجودهم حقاً طبيعياً لهم.
إلى جانب ذلك، فإن الوجود الأميركي مربك جداً. لا شيء نهائياً ومضموناً مع الرئيس ترامب لكي يتم البناء عليه. مشكلة ترامب أن ما يراه ويريده يصطدم في أغلب الأحيان مع البنتاغون ومجلس نواب، حيث الأغلبية فيه للمعارضة «الديموقراطية». يُضاف إلى ذلك أن ترامب نفسه يواجه يومياً مساءلة صعبة ودقيقة تتناول حتى استمراره في البيت الأبيض.
إيران في وضع دقيق جداً، لأنها مضطرّة للاهتمام بالداخل والعمل على ضبط إيقاعه بحيث لا تنفجر أزمة فوق أزمة قديمة، في وقت تُراهن قوى عديدة على حصول ذلك. إيران لا تريد المواجهة الشاملة مع إسرائيل لكن لا يمكنها التخلّي عن خطابها السياسي العدائي، لأنه استثمار لا بديل عنه، لأنه يُشرّع انتشارها على مساحة الدائرة المُمتدة من لبنان إلى سوريا فالعراق، وصولاً إلى باب المندب عبر اليمن. الانفصام واضح في هذه الحالة. الديبلوماسية أي الدولة المدنية تؤكد كما قال وزير الخارجية جواد ظريف: «أن لا أحد تكلم عن إزالة إسرائيل»، فإذا بجنرال شعر بالحراجة من الغارة الإسرائيلية يُعلن أن «جنوده يريدون إزالة النظام الصهيوني ولكنهم يصبرون».
أصبح الوضع في سوريا، بالنسبة للجميع (إيران وتركيا وإسرائيل وروسيا وأميركا) مثل «الرقص فوق صفيح ساخن».
السؤال هل ينجح كل هؤلاء في القفز إلى الأرض أم يتابعون «الرقص» حتى يُصفّون حساباتهم، على حساب سوريا والمنطقة؟