قبل أسابيع من القمّة، تلقّى لبنان عبر الأقنية العربية نصائح بتأجيل القمة التنموية الاقتصادية والاجتماعية. وقيل له: «المناخ العربي لا يلائم اتخاذ قرارات اقتصادية وتنموية مفيدة. كما أنكم، أنتم اللبنانيين، تتخبطون اليوم بلا حكومة فاعلة تتولّى متابعة المقررات والتوصيات وتنفيذها».
وقيل للبنان أيضاً: «كل الملفات التنموية التي يمكن أن تستفيدوا منها ترتبط بسوريا: فهل يمكن الكلام على تنمية إذا لم نبدأ بملف النازحين؟ وهل فتح الخطوط التجارية البرية بين لبنان والبلدان العربية ممكن من دون سوريا؟ وهل يمكن الكلام على دورٍ في إعمار سوريا من دون التفاهم معها؟ وحتى الكهرباء والنفط والغاز ترتبطون فيها بسوريا، إمداداً واستخراجاً وتصديراً».
النصيحة التي تلقّاها لبنان قضت بتأجيل القمة الاقتصادية إلى ما بعد قمة تونس في آذار المقبل. وقيل: «آنذاك، قد تكون عندكم حكومة فاعلة، ويكون الحلّ قد تبلور أكثر في سوريا وظهرت معالم الارتياح في العلاقات بين دمشق وكثير من الدول العربية، بدءاً بدولة الإمارات».
وفي صراحة أكبر، كان المطلوب، لكي يأتي الرؤساء والملوك العرب، أن تنشأ حكومة لا يطغى عليها نفوذ «حزب الله»، بل تقيم التوازن في مواجهة الغالبية التي تطغى اليوم على المجلس النيابي، والتي يتحكّم بها «الحزب».
هذا الواقع أدركه جيداً الرئيس سعد الحريري، الخبير في الشؤون العربية، وأدرك ما ينطوي عليه من مصاعب وتحدّيات. ولذلك هو بقي في المشهد الخلفي من القمة، ولم يغامر بالبروز كثيراً لئلا يحترق.
وكذلك، أدرك الرئيس ميشال عون والوزير جبران باسيل حجم التحدّيات، ولكنهما فضَّلا المحاولة وعدم تفويت فرصة نادرة لعقد قمة عربية في بيروت، أياً تكن المصاعب، ومحاولة تحقيق خروقات في عدد من الملفات المهمّة، ولا سيما منها ملف النازحين والتعاون التنموي العربي. فلبنان يحتاج إلى أي لفتة عربية في الظروف الصعبة التي يمرّ بها، في موازاة الدعم الذي ينتظره من تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر».
في العمق، المشكلة إذاً هي أنّ لبنان واقع تحت النفوذ الإيراني. وربما يعتقد بعض العرب أنّ المرحلة المقبلة ستشهد تراجعاً لهذا النفوذ، وتالياً لفائض القوة لدى «حزب الله»، ما يتيح قيام توازن أكبر في السلطة في لبنان.
وثمة مَن يعتقد أنّ بعض القوى العربية الفاعلة، وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي، اتخذ قرار المقاطعة بالتنسيق مع واشنطن التي تستعد للانخراط في أوسع معركة مع النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، في موازاة ارتفاع الضغوط إلى مستويات قياسية على «حزب الله»، انطلاقاً من مستلزمات قانون العقوبات الذي يستهدفه.
ووفق بعض المعنيين، إنّ قادة خليجيين عمّموا قرار المقاطعة على قيادات عربية بارزة، كانت أبلغت الى لبنان أنّها ستشارك في قمة بيروت، وفي مقدمها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فقررت التراجع.
وكان الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط ديبلوماسياً جداً عندما قال، وهو يبتسم، ردّاً على سؤال: «لا علم لي بأن هناك مَن دعا القادة العرب إلى عدم حضور القمة». لكن هناك مَن يتحدث عن «كلمة سرّ» تمّ تمريرها في الأيام الأخيرة التي سبقت القمة، خصوصاً على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، وتقضي بمقاطعة لبنان والتمثُّل في القمة بالحدّ الأدنى، أي الاكتفاء بحضور وزراء الخارجية أو المال أو الاقتصاد.
طبعاً، ساهم الاشتباك اللبناني الداخلي واللبناني- العربي، على خلفية مشاركة كل من سوريا وليبيا، في إضافة التعقيدات. وجاء التلويح بإعاقة وصول الوفد الليبي من المطار إلى مكان انعقاد القمة بمثابة ذريعة إضافية للراغبين في المقاطعة. لكن السبب الحقيقي يبقى في القرار الذي اتخذته قوى عربية، وربما دولية، بمعاقبة لبنان وإفهامه بأن لا ازدهار ولا دعم ممكناً للبنان إذا ما استمرّت السيطرة الإيرانية على قراره.
واللافت هو الشائعات التي سرت سريعاً قبل يومين من القمة، والتي لم يُعرَف مَن قام بتسريبها، وفيها أنّ بعض الوفود العربية قد تتعرَّض لاستهدافات أمنية، وأنّ عليها التنبّه وتعديل مواعيد تنقّلها. وعلى الأرجح، إنّ هذه الشائعات جزء من عملية الضغط التي ساهمت في تحقيق الغاية، أي إحباط قمة بيروت.
وفي ظل المأزق الذي وقع فيه الجانب اللبناني نتيجة المقاطعة العربية، يمكن تفسير الدور الذي اضطلعت به قطر. فهي استثمرت في المنطقة الرمادية ووجدت سبيلاً إلى فتح باب صغير يخفّف عنها مناخ العزلة العربي، ومعها استفاد لبنان بما أمكن. لكن الهوامش التي يمكن أن تبلغها المبادرة القطرية تبقى محدودة في الزمان والمكان.
والآن، ماذا بعد القمة؟
المتابعون يقولون: على لبنان أن يخاف كثيراً مما جرى في القمة، وأن يراجع حساباته بدقّة ويُصلح المسار قبل فوات الأوان. فالمقاطعة العربية كانت جرس إنذار بأنّ زمن المناورة والمماطلة والسير في المنطقة الرمادية بين إيران وخصومها ربما انتهى، وأنه آن الأوان لحسم المواقف والخيارات. ففي المرحلة المقبلة، سيرفع الأميركيون من حرارة معركتهم المفتوحة ضد إيران و»حزب الله». وسيدفعون بحلفائهم العرب إلى زيادة ضغوطهم أيضاً. وهكذا، قد يصبح لبنان وحيداً، يواجه مصيره إقتصادياً ومالياً وسياسياً وأمنياً. فمَن سينقذه؟