هي شهادة متواضعة لبيروت التي شهدت قمة إقتصادية عربية وتظاهرة معيشية لبنانية لم تكن تفصل بينهما سوى بضعة كيلومترات، ولم تكن تربط بينهما سوى الصدفة..مع ما يعنيه ذلك من سوء تقدير متبادل بين الذين جلسوا في قاعة الواجهة البحرية، وبين من ساروا في شوارع العاصمة.
المرجح ان رؤساء الوفود العربية الى القمة لم يعلموا بالتظاهرة المطلبية التي لم يخطر في بال منظميها ان تقترب من الواجهة البحرية او أن تلوح من بعيد باللافتات الاحتجاجية الموجهة الى المسؤولين العرب الذين يتحملون جزءا من المسؤولية عن ذلك الانهيار الاقتصادي اللبناني والعربي.
سار الحدثان في خطين متوازيين، متباعدين: لم تكن القمة مؤهلة للرد على الاسئلة المهمة الخاصة بواحدة من أسوأ الازمات الاقتصادية العربية في العقود الخمسة الماضية، كما لم تكن التظاهرة مكلفة بطرح أي من هذه الاسئلة، التي تتخطى الداخل اللبناني ومشكلاتها المتزايدة، والمستعصية على أي تظاهر او إعتصام، لا سيما عندما يصبح جزءا من طقوس العاصمة اللبنانية وتقاليدها القابلة للاحتواء، طالما أنها لن تتحول الى حركة جماهيرية عابرة للطوائف والاحزاب والتيارات، ذات برامج وأهداف واضحة ومحددة، وموجهة ضد أفراد وليس ضد أشباح.
وهكذا أضافت بيروت الى سجلها الحافل حدثين عابرين، أنتهيا من دون أي أثر، سوى الصورة والصوت اللتين لا يمكن ان يستثمرهما عهد الرئيس ميشال عون وحكومته المفقودة. حتى حضور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الذي لم يدم سوى بضع ساعات لا يمكن ان يوضع في هذا السياق، إذ كان تعبيراً عن الحرص على مؤسسة القمة العربية بصفتها آخر مظاهر العمل العربي المشترك، أكثر من كونه مقدمة لحضور قطري خاص في الشأن اللبناني، يستعيد تجارب سابقة، على ما كان يأمل كثيرون من اللبنانيين.
لم تستجب القمة لمطالب لبنان، مثلما لم تلبِ التظاهرة حاجات لبنان: ظلت عودة سوريا الى الجامعة العربية، خارج البحث، وخارج القرار، وبقيت أزمة النزوح السوري بعيدة عن الجدل اللبناني العقيم الذي يتهم المجتمع الدولي بأنه يعرقل او يعطل عودة النازحين السوريين، حسب الخطاب الرسمي اللبناني العجيب، الذي ليس له أي سند أو منطق، بل ان الوقائع السورية نفسها تدحضه كل يوم، وتقدم أكثر من دليل على ان النظام نفسه لا يريد هذه العودة ويستخدمها مادة للضغط والابتزاز.
وكذا الحال مع التظاهرة الشيوعية اليسارية المدنية، التي كانت أدنى بكثير من حجم الاحتجاج الشيوعي واليساري والمدني على صفحات التواصل الاجتماعي مثلا، على الحالة الاقتصادية اللبنانية البائئسة والحالة السياسية اللبنانية الاشد بؤساً. ولم يكن الحضور الشعبي الضعيف هو التحدي، بل كان الإعتماد الغامض والملتبس على خطاب وشعار يجهل الفاعل، والمسؤول أكثر مما يخدم في تظهيره، برغم أن أحداً من المشاركين في التظاهرة لا يعرف مصدر تعطيل القرار السياسي، وتاليا الاقتصادي في لبنان. تجهيله لم يكن نتاج خلاف بين المتظاهرين على الاولويات بل على الأنحيازات، التي تبقي غالبية المتضررين من الازمة في منازلهم عادة.
مع ذلك، فإن ذلك المشهد المزدوج الذي شهدته بيروت لا يمكن ان يحصل في أي عاصمة عربية أخرى، او في غالبية العواصم العربية، وهو رصيد كافٍ للمضي قدماً في القمم العربية، إقتصادية أو سياسية، وفي التظاهرات الشعبية المصاحبة لها، بصفتها ضرورتين، شكليتين على الاقل، للتعبير عن مظاهر صحة الاجتماع العربي العام..على أمل ان تتصادم الظاهرتان في شوارع العالم العربي، لتنتجا يوماً ما هو أكثر جدية مما جرى في وقت واحد في قاعة الواجهة البحرية أو في جادة بشارة الخوري.