لا تنبني ما يسمّى “الزعامات” في لبنان إلا ضد الدولة. ضد الدولة من داخلها ومن خارجها. بهذا المعنى، بل بأكثر من معنى، الدولة هي ضد الدولة في لبنان.
لا نكتشف جديدا. نشير إليه فقط في مناسبة فضيحة أو سخيفة (على وزن فضيحة) جديدة اسمها ليس إنزال العلم الليبي بل عدم تحرك “الدولة” في لحظة نزع العلم عن منصة رسمية، ولو كانت في الشارع، وعدم إعطاء أي أمر في لحظتها باعتقال أو منع ما يقوم به، ظاهرا، بضعة ميليشياويين في منطقة من بيروت تعج بالجيش (القاعدة البحرية) وتجاور ثكنة من ثكنات قوى الأمن ثم لا يصدر عن أي جهة قضائية قرارُ ملاحقة ولو شكليٌ ضد الفاعلين. أما في المطار فلم يستطع رئيسا الجمهورية والوزراء أن يُدخلا رجل أعمال ليبيا واحدا.
هذه هي الفضيحة المتجددة. وليس إنزال علم دولة مدعوة للمشاركة في قمة عربية في بيروت ونظامها السياسي هو النظام الذي قتل ببعض قبائله في مدينة مصراتة معمر القذافي شخصيا بعدما أرغمه الطيران الفرنسي خصوصا على الانكشاف. (دعك من بعض الحجج المفتَعلة التي يتلوها المنْزِلون عن بعض المسؤولين الليبيين الحاليين وهي على أي حال كان ينبغي أن تعالَج من دولة إلى دولة وليس من ميليشيا لدولة).
لكن هذا هو النظام السياسي اللبناني: الطائفيات السياسية الرئيسية تديرها كلها “زعامات” تمسك بالدولة من داخلها وتدير التمرد الدائم على الدولة. أعطوني إسما واحداً يدير طائفية سياسية من إحدى الطائفيات الكبريات (محليا) الصغريات (إقليميا) التي لم تنطلق قوتها أو تتمرس إلا عبر مواجهات مع المسماة “الدولة” في لبنان. الكتائب أم القوات اللبنانية أم الحزب التقدمي الاشتراكي أم حركة أمل أم الحركة العونية (حتى وهي تسيطر على جزء من الدولة قبل استبعادها)؟ربما وحده تيار المستقبل نما من داخل الدولة ولكن كاحتقان طائفي ضد السلطة وغطى وشارك حروبا أهلية باردة متفرقة كما أنه هو وحزب الله وحدهما أنشِئا بقرار من خارج لبنان، كل منهما في دولة إقليمية كبيرة.
كل من لعب مع الدولة وكان مؤيدا لها انتهى سياسيا في لبنان أو ضعف إلى حد الهزال. هذه هي إذن كلمة السر الشائعة لتبقى “الزعامات” وتزدهر في المشروع واللا مشروع: كن ضد الدولة أي ضد القانون.وهناك جيل جديد، منه ما نعرف، ومنه ما لا نعرف بعد، يستعد ذات يوم ليلعب اللعبة نفسها في البلد الرائع الدولة التافهة.
أسمح لنفسي بملاحظة قد تبدو ساذجة وهي أنني “اكتشفتُ” خلال العاصفتين نورما وميريام (ذاتي الاسمين المسيحيين ربما لأسباب جمالية جبلية وليس كارثية) كم لدينا من أنهار في لبنان. أنهار طبيعية، حتى لو بعضها يحتضر، تفصل معظم الوديان التي تفصل معظم الأقضية عن بعضها البعض.
لدينا ميليشيات بقدر ما لدينا أنهار. كأن هذه التعددية النهرية تشبه التعددية الميليشياوية التي تقوم على أنهار مستقلة لأن كل نهر يبدأ فيها وينتهي من الجبل إلى البحر (وبشكل محدود السهل) داخل لبنان ما عدا نهر العاصي الذي ينتمي إلى منظومة الأنهار الكبرى في المنطقة خصوصا لمن سيراه في مجرييه السوري والتركي “الجديّين” جداً!
النظرية التقليدية هي أن دولة النهر الواحد (مصر) أو دولة النهرين (العراق) لا بد أن تكون مركزية. هذا صحيح ومستمر في مصر. لكن في العراق انتصرت التعددية الطائفية على المركزية الثنائية النهرية منذ سقوط صدام حسين. فنشأت الدولة الضعيفة المتعددة الطائفيات السياسية. حتى على مستوى القبائل الشهيرة في العراق بكون القبيلة الواحدة في الجنوب والوسط تنقسم إلى شيعة وسنة، حتى على هذا المستوى انتصرت الطائفية على القبيلة فانقسمت القبيلة طائفيا وتقاتلت في بعض الحالات. في لبنان التعدد الطائفي يتماهى مع التعدد النهري ولا يتناقضان في السياسة فتستمر الدولة ضعيفة مفضوحة اللاسلطة ولكن الفارق أن دولة الطائفة تؤذي النهر على المستوى البيئي لأنها دولة خروج على القانون. وأحيانا الطائفة الدولة تقتل النهر.
هذه هي الملاحظة الأولى.
الثانية:
الكيد الطائفي اللادولتي يؤخّر التحرك الطبيعي باتجاه الدولة السورية منذ مدة باتت طويلة وبما يؤذي أولاً المصالحَ الاقتصادية الجوهرية الواضحة لقطاعات عديدة في لبنان. حتى الرئيس ميشال عون الراغب بعلاقات تطبيعية بين الدولتين تأخر كثيرا في المبادرة إلى التحرك واكتفى بديبلوماسية سرية مع دمشق لا تغني ولا تسمن.كان ينبغي أن يرسل وزيرا بارزا للقاء الرئيس بشار الأسد قبل القمة ثم يصدر بيانا عن ضرورة العلاقات مع سوريا وعن ضرورة عودتها إلى الجامعة العربية ولو كانت القمة الاقتصادية في بيروت لا تتيح دعوتها لأنها قمة للجامعة العربية. هكذا بكل علنية واحترام.
لم يحصل ذلك ودخلت الدولة اللادولة اللبنانية في مسار جديد من الضعف أمام تكوينها الميليشياوي المتعدد الذي يحمل معه لا ضعفها فقط بل انحطاطها أيضا.
البلد الرائع، الدولة التافهة.