يمكن توصيف زيارة محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني للعراق بكونها زيارة تفقدية لرعاياه من أحزاب وقوى سياسية واقتصادية وقوى أخرى مسلحة للاطمئنان على واقع العلاقات بين أطراف العملية السياسية، وللوقوف على آخر مستجدات تواجد القوات الأميركية وأطروحات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في جولته الأخيرة، وخاصة ما يتعلق منها بالدعوة إلى حضور مؤتمر بولندا وما قد يسفر عنه من تشكيل تحالف دولي لا يبتعد كثيراً عن التحالف الدولي للحرب على تنظيم داعش.
الحرب على الإرهاب قائمة رغم انحسار نفوذ تنظيم داعش في العراق وسوريا، ذلك لأن مصدر الإرهاب وقوته المركزية يكمنان عملياً في النظام الإيراني بتمدد ميليشياته في الشرق الأوسط وبعمليات إرهابية على مساحات متناثرة من العالم، وهي عمليات ذات طبيعة استهداف مسبق لشخصيات وجماعات أو لأهداف عقائدية بتجنيد المرتزقة، إضافة إلى توفير مصادر تمويل بتجارة المخدرات وغسيل الأموال.
زار ظريف العراق الغني بالنفط والثروات الطبيعية وفرص الاستثمار الواسعة في مختلف الأصعدة، وفي المقدمة منها إعمار المدن المدمرة بالإرهاب أو بالفساد وانفلات السلاح وهيمنته على مصادر القرار، لذلك اختتم لقاءاته التجارية والاقتصادية بقمة جمعته بقادة ميليشيات الحشد الشعبي في مفارقة تلخص لنا رؤية نظام ولاية الفقيه للسلطة في العراق وتحديداً مفاتيح الفكر الاستثماري والتنموي والراعي لمرحلة البناء والإعمار والإصلاح في العراق.
يخاطب وزير الخارجية الإيراني قادة الحشد بكلمة “يجب”، وهي كلمة يحذر منها الإعلاميون والصحافيون عند تداولها لأن فيها لهجة آمرة تصدر عادة من القادة لمن هم في إمرتهم لتنفيذ القرارات والمضي في أداء مهماتهم بحذافير ما يوجه إليهم. و”يجب” هنا استخدمها ظريف لإعطاء الفرص الأكبر في إعمار العراق إلى الشركات الإيرانية التي “ينبغي” تفضيلها على الشركات الأوروبية والأميركية، ويعلل ذلك بقلة النفقات الأمنية لأن الشركات الإيرانية، وبصريح العبارة وبثقة متناهية، لا تحتاج إلى من يحميها من الإرهاب، ثم استدرك، بوجود قوات الحشد الشعبي.
ظريف تحدث إلى قادة الميليشيات باللغة الفارسية، وأملى عليهم تعليمات ولاية الفقيه في تسخير الموارد العامة لتخفيض آثار العقوبات بزيادة التبادل التجاري، والحقيقة زيادة استيراد المنتجات الصناعية والزراعية الإيرانية والتي يشتكي منها العراقيون لعدم جودتها أو لتزوير تاريخ انتهاء صلاحيتها، وهي مشاكل مزمنة تشهد عليها المنافذ الحدودية والأسواق وجموع المستهلكين، ولتلك الحقائق شجون وخسائر في الثروات وفي أرواح الأبرياء.
يخاطب ظريف الولايات المتحدة من خلال قادة الميليشيات “ستمضون ونبقى لأننا أهل الأرض”، وهنا كيف لنا أن نقول إننا لا ندري عن أية أرض يتحدث، فالعراق بالنسبة إليه انتهى أمر الجدل فيه وبعائديته، حتى أنه يتعاطى مع تلك العبارة بشغف الإعلانات الأميركية التمويل في الترويج لفكرة تحرير العراق وليس احتلاله.
أي إنه ينتحل صفة المواطن العراقي والمقاومة أيضاً، متناسياً تماماً أن الاحتلال الأميركي جاء بمن يجتمع بهم من قادة الميليشيات إلى ساحة العراق، وسمح لنظامه بأن يتولى السلطة في العراق عندما دفع بالأحزاب الطائفية إلى سدة الحكم وكتابة الدستور وإقامة نظام برلماني ديمقراطي خاص بالعراق يشرع القوانين لحماية سلاح الميليشيات ودولة الميليشيات التي أنجزت الإبادة والتطهير العرقي ومهدت لاجتياح تنظيم الدولة للمدن المطلوبة مذهبياً على لائحة ولاية الفقيه، ولتمويل التنظيم كذلك.
التخوف في معظم التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية أو الإعلامية من صراع بين الولايات المتحدة وإيران في العراق، في الكثير منه غير مبرر، فكلا الطرفين تخادما قبل وبعد الاحتلال في التهيئة للمحاصصة الطائفية والسياسية في نظام الحكم، بما صدر عن سلطة الاحتلال من قرارات الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، وكلاهما استفرد بالعراقيين قتلا وتنكيلاً واعتقالا، وتقاسما مهمة الميليشيات واستهتارها بحياة المواطنين في الشوارع والمدن.
الصراع المتصاعد يندرج تحت تبويب التجاذبات السياسية بين إدارة البيت الأبيض برئاسة دونالد ترامب ونظام الملالي في طهران، بما تشير إليه التصريحات الإيرانية من المرشد الأعلى وقادة الحرس الثوري والرئيس حسن روحاني إلى ابتسامة وزير خارجيته التي تذكرنا بمستوى حرب التغريدات الخارجة عن المألوف بين الرئيس ترامب وما يقابلها من تشنجات لاستعراض القوى أو لغة الحرب الصادمة، وكيف انتهت بعد رعب المواجهة النووية إلى السقوط في حب الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، على حد تعبير الرئيس الأميركي.
الصراع من زاوية نظر الوزير ظريف والقيادة الإيرانية لا يتعدى كونه صراعا مع الرئيس ترامب رجل الأعمال، الذي يرفع شعار “أميركا أولا” و”بزنس أولاً”، بصفته بياع كلام من الطراز الأول أيضا، وهو رئيس قد يذهب بعيداً في التهديد بالعقوبات والانسحاب من الاتفاقيات، لكنه لا يريد أن يخسر جندياً أميركياً واحدا في حروب يراها عبثية ومكلفة والتزامه فيها تفرضه الولايات المتحدة كقوة عظمى، وهذا ما تأكد بقراره شبه المفاجئ بسحب القوات الأميركية من سوريا وبصدمته من مقتل عدد من جنوده في التفجير الانتحاري في مدينة منبج.
النظام الإيراني يرى في الأرض العراقية، بما فيها الوجود الأميركي، مصدراً للمناورة لتخفيف العقوبات وابتزاز العراقيين والعالم، فقرابة 40 مليون عراقي يمثلون للنظام سوقاً استهلاكية نموذجية في ظل حرب معلنة على الإنتاج الصناعي والزراعي والحيواني المحلي في العراق، مع وجود أذرع محلية تحمل أعباء السياسة والسلاح بما تؤدي من واجبات في مواجهة تكاليف التصعيد ضد القوات الأميركية والبعثات الدبلوماسية أو بالاستعجال في تشريع قانون برلماني يطلب العراق فيه انسحاب القوات الأجنبية من أراضيه لإدخال الإدارة الأميركية في مأزق مع حكومة العراق بصفتها حكومة منتخبة وذات نظام ديمقراطي وتحظى بالدعم الأميركي طبعاً.
عند هذه النقطة تكون إيران خارج اللعبة، وأي مواجهة وإن حصلت فلن تكون إلا مع ميليشيات بغطاء حكومي وتحت إمرة رئيس وزراء العراق ومدعومة من فتوى المرجعية، لذا فإن خطوة الإدارة الأميركية في تشكيل تحالف دولي تبدو منطقية للإجابة على وجهة النظر الإيرانية تمهيداً للحظة لقاء ممكنة ولا تبدو مستحيلة، لحظة يتمنى النظام الإيراني الوصول إليها، رغم كل تاريخه وصادراته، دون حادث عرضي قد يجرح كبرياء الدولة العظمى.
انتهت زيارة وزير الخارجية الإيراني بتجربة استبدال 50 عاملا إيرانيا بالعمال العراقيين في مصفى السماوة، وتحديدا في محافظة المثنى الأكثر فقراً بين محافظات العراق، في تجربة إيرانية بمثابة استطلاع أو استقصاء ميداني، لا ترى في العراق سوى ما ينطبق على القرش الأبيض في يوم مشروعها الأسود.