بين أول شباط 2018، و12 منه، زارت بعثة خبراء من صندوق النقد الدولي لبنان، في ظل تنامي المخاوف مما وصلت إليه الأزمة المالية والاقتصادية.
وبعد لقاءات مع المعنيين، ودرس المعطيات، توصَّلت هذه البعثة إلى استنتاجات حسّاسة جداً وطلبت تنفيذ مجموعة تدابير سريعاً، للحؤول دون الوصول إلى الأسوأ على المديين القصير والمتوسط لا المدى الطويل.
توقعت البعثة أن يقترب الدين العام من 180% من إجمالي الناتج المحلي مع حلول العام 2023. وقالت إنّه «في ظل السيناريو الأساسي الذي يفترض عدم إجراء إصلاحات أو زيادة في أسعار الفائدة، ستتراجع كفاية الاحتياطيات في لبنان على المدى المتوسط».
وتحدثت عن إيجابيات ربما تنجم عن حل سياسي مُحتمل في سوريا، ولكن، «في ظل التوترات في المنطقة أو وقوع حوادث أمنية، وارتفاع أسعار النفط وازدياد حاجات لبنان من التمويل، أو تباطؤ تدفقات الودائع الداخلة، ستكون هناك ضغوط على احتياطيات النقد الأجنبي».
ودعت البعثة في شكل طارئ إلى اعتماد «خطة ضبط مالي» تكون جزءاً من موازنة عامة وصفتها بأنّها «موثوق فيها». وقالت «إنّ سياسات مصرف لبنان الحالية ساهمت في الحفاظ على الاستقرار ولكنها خلقت تشوّهات سوقية».
وأشارت البعثة إلى «صدمات متنوعة يمكن أن يؤدي تحققها إلى كشف مَواطن الضعف في النظام المصرفي»، ودعت المصرف إلى اعتماد «سياسة أسعار الفائدة التقليدية بدلاً من استخدام العمليات المالية».
وشدّدت على «تفعيل الإطار التنظيمي لمكافحة الفساد»، و«تعزيز إطار إدارة الأزمات ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب».
هذه البنود يجدر التذكير بها لمناسبة مرور عام بالتمام على «ذكراها»، فيما الأزمة تكاد تبلغ أعلى درجاتها، وتستدعي التذكُّر والتساؤل عن سبب تجاهل التوصيات و«النوم على حرير» الكلام المعسول من نوع: «الطقسُ جميلٌ والشمسُ مشرقةٌ».
آنذاك، أحدث التقرير اهتزازات في عدد من الأوساط. واعتبر خبراء في الاقتصاد والمال أنّه جرس إنذار لا يمكن تجاهله، وأنّ مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية يجب أن تتكرّس لتنفيذ بنوده بحماسة وإخلاص. فإذا أهملت الحكومة هذه التوصيات، سيرتفع الدين العام، وسيكون الانهيار المالي أمراً واقعاً خلال عام أو عامين على الأكثر، بحسب بعض هؤلاء الخبراء.
إلّا أنّ حاكم مصرف لبنان، في الاجتماع الشهري مع جمعية المصارف، في 15 شباط 2018، وجّه انتقادات إلى تقرير البعثة.
وحصلت «الجمهورية» على محاضر اجتماعات شهرية عدّة للحاكم والجمعية، في تلك الفترة. وفي محضر 15 شباط، انّ المصرف وافق على نشر خلاصة التقرير «الذي جاء متشدداً أكثر من مؤسسات التقويم».
ومن مآخذ مصرف لبنان، وفق المحضر، أنّ البعثة لم تأخذ في الاعتبار جوانب عدة من الأوضاع الاقتصادية، كتراجع الاستيراد والضغط الناتج من النازحين، وأنّه لا يذكر صافي الدين العام في السوق.
ووصف المصرف المعالجات التي تطرحها البعثة بأنّها «ضمناً غير واقعية وغير قابلة للتنفيذ، إذ لا يمكن ردم الهوَّة بين المداخيل والنفقات بنسبة 10% خلال فترة وجيزة»!
وهكذا، في رأي عدد من الخبراء، فوَّت الجانب الرسمي اللبناني فرصة أخرى ودعوة دولية جديدة الى الإنقاذ من كارثة لا بدّ أنّها ستقع مهما حاول المعنيون تأخيرها وكسب الوقت.
وستقع الكارثة أخيراً، إما في ساحاتهم وإما في ساحات آخرين يمكن أن يتولّوا المسؤولية بعدَهم، لأنّ العِلم والمنطق يشيران إلى أنّ الخلل يتمادى في لبنان بالترقيع والمصادفة والتجاهل، ولا يُعالَج، وأنّ الكارثة عندما تقع بعد التمادي والمماطلة لمدّة طويلة، تكون عواقبها أكبر بكثير وأخطر من تلك التي يمكن أن تنتج اليوم.
ويسأل هؤلاء الخبراء: «إذا كان الرئيس ميشال عون يراهن على أنّ عهده سيبدأ فعلاً بعد الانتخابات النيابية، وبعد تشكيل الرئيس سعد الحريري حكومته، وإذا كان الرئيس نبيه بري- معه وزير المال- يعلن الاستنفار لمواجهة أصعب التحدّيات المالية والاقتصادية، فما الذي يكبِّل أيدي أركان الحكم جميعاً للدخول بجرأة في البوابتين الأساسيتين للإنقاذ: مواجهة الفساد، والتزام معايير قانون العقوبات في اعتبارها جزءاً من شفافية القطاع المالي المصرفي؟».
مأزق المسؤولين اللبنانيين، وفق هؤلاء الخبراء، هو أنهم: إما عاجزون عن القيام بالخطوة، وإما إنهم ليسوا في المناخ الحقيقي والحيثيات الكاملة للأزمة وما قد تقود إليه من كوارث.
فسياسة «الطقسُ جميلٌ والشمسُ مشرقةٌ» يتم اعتمادها منذ مطلع العام 2017، أي منذ أن تبلّغت إدارة عون - الحريري (الواصلة إلى الحكم حديثاً) تحذيرات جازمة من إدارة الرئيس دونالد ترامب (الواصل حديثاً أيضاً إلى البيت الأبيض) من مغبة استمرار انخراط القطاع المصرفي اللبناني في إمرار عمليات «حزب الله» المالية ونقلها إلى داخل القطاع المصرفي الأميركي.
الردّ في اللقاءات الشهرية لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وجمعية المصارف ولجنة الرقابة على المصارف كان دائماً أنّ كل شيء على ما يرام، وأنّ الأميركيين يتفهَّمون لبنان، وأنهم لن يفرِّطوا باستقراره. وفيما الدعوى الأولى المرفوعة اليوم على مصارف لبنانية في الولايات المتحدة ترتبط بعمل فروعها في العراق، فالعودة إلى محضر الاجتماع الشهري في 20 تشرين الثاني 2017 يضيء على جانب من الملابسات في هذا المجال، عندما تمّ التعاطي مع التحذيرات من العقوبات بوصفها «شائعات مغرضة» و«مؤامرة»، وتمّ تسليط القضاء على أصحابها لمتابعتهم وملاحقتهم.
جاء في المحضر، تحت البند «ثالثاً»: «تواجه مصارفنا في سوريا والعراق متطلبات زيادة رساميلها مع نهاية العام (…) لما تُشكّله من خروقات للعقوبات الدولية. وتمنت الجمعية على مصرف لبنان التواصل مع السلطات النقدية هناك لتأجيل التنفيذ نظراً إلى الظروف الصعبة لدينا ولديهم. ولم يُبدِ الحاكم رغبة في التدخل، بل وتساءل ضمناً عن جدوى الوجود في هذه الأسواق».
وفي المحضر إيّاه، انّ الحاكم أكّد أنّه «بنتيجة الاتصالات التي أجراها أو تلقاّها من الجهات الخارجية، والأميركية خصوصاً، لمس حرصاً على عدم تعريض الاستقرار اللبناني لأي اهتزاز».
سبق ذلك، في الاجتماع الشهري في 14 أيلول 2017، إدانة لما تمّ وصفه بأنه «شائعات» تستهدف الاستقرار. وواكب الاجتماع أعلان سفير لبنان في واشنطن غبريال عيسى أن مروِّجي الشائعات عن دعاوى قضائية ضد المصارف اللبنانية «مدسوسون». ولاقاه وزير العدل في بيروت بكتاب إلى النائب العام التمييزي القاضي سمير حمود يطلب فيه التحرّك ضد مطلقي هذه الشائعات.
إذاً، اليوم، لم يعُد الكلام عن «شائعات مُغرضة» في محلّه، بل هو واقع يريد الشعب اللبناني، كما العهد وأركان الحكم، الخروج منه في سلامٍ وسلامة. كما أنّ تأخير ورشة القضاء على الفساد مكلف جداً، بل قاتِل.
وتبيَّن أنّ سياسة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال لا تنقذ لبنان بل تُعمِّق إغراق النعامة من رأسها حتى قدميها، فتذوب كلها في الصحراء وتختنق.
فهل هذا المطلوب للبنان؟ ولماذا؟ ولمصلحة مَن؟ وهل مَن يتحمّل المسؤولية ويتصف بالجرأة والمسؤولية والتجرُّد والكرامة الوطنية؟ ومتى؟