عاد لبنان مرآة لصراعات المنطقة، بعد إجازة طوعية وخارجية له من تكبد مشقات تلك الصراعات ومآسي الحروب التي عاشها الإقليم في نيف وعقد من الزمن، دفع ثمنها الكثير من استقراره واقتصاده ومن تخلف نسيجه الاجتماعي.
لم يصمد «النأي بالنفس» عن أزمات المنطقة وحروبها كثيرا. وهو ليس الشعار الوحيد الذي أنتجته التسويات الهادفة للتقليل من خسائر استتباعه للتناقضات الخارجية، والذي يتهاوى في المشهد الداخلي. حتى شعار «ربط النزاع» الذي ابتدعه رئيس حكومة تصريف الأعمال وزعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري نتيجة تباعد مشروعه مع مشروع «حزب الله»، ترنح بالتزامن مع أزمة تأليف الحكومة اللبنانية وتعطيل ولادتها من قبل الحزب.
كذلك شعار «الانسجام مع الإجماع العربي»، الذي لطالما كان المبدأ الذي استندت إليه السياسة الخارجية اللبنانية، حتى في ظل الهيمنة السورية على قراره السياسي، تتم محاولة تجويفه عند كل محطة من مراحل التأزم الإقليمي، وصولا إلى درجة السعي لمنع عقد القمة العربية الاقتصادية في لبنان.
أما شعار «لا غالب ولا مغلوب» الذي ارتبط نشوءه، على لسان رئيس الحكومة السابق صائب سلام، بإنهاء الحرب الداخلية عام 1958 يجري التصرف بعكسه. ف»حزب الله» يعتبر أن التطورات الإقليمية أنتجت
معادلة فيها غالب ومغلوب لمصلحته ولمصلحة محور «الممانعة» الإيراني – السوري.
وإذا كان لبنان تعرض على مر تاريخه للهزات الناجمة عن التأزم في الإقليم، فإن المرحلة الانتقالية التي تمر فيها المنطقة على أبواب رسم خارطة جيو سياسية جديدة فيها، تزيد من إرباك طبقته السياسية بسبب التجاذب الذي يتعرض له لجهة تحديد موقعه في هذه الخارطة. وما يزيد في الإرباك أن هذه الخارطة غير واضحة المعالم على رغم اعتداد فريق «الممانعة» بوضوح معالمها، وعلى رغم آمال فريق مقابل بأن وجهة الأحداث ستنتج معادلة غير التي يروج لها الحزب، بينما يرى فريق ثالث أن الأمر يحتاج الكثير من الوقت قبل أن ترسو أقلام راسمي الخارطة على خطوط واضحة، ومن الأفضل للبنان ألا يستبق ما تستعد له الدول كبرى.
من الواضح أن أكثر المستعجلين على التموضع اللبناني هو «حزب الله»، الذي يطمح لقطف ثمار عشرات السنين من العمل الإيراني الدؤوب، من أجل صنع النفوذ في سورية التي تشكل حجر الرحى في المعادلات الجديدة ستنشأ عليها الخارطة المقبلة والتي ستوزع النفوذ الدولي ومغانم الثروات وتحدد مراكز القرار. وإذا كان إسقاط الشعارات التي طبعت المشهد السياسي اللبناني يتم من أكثر من فريق، فإن الحزب أكثر القوى السياسية التي تطيح بها. هو لا يخفي منذ البداية ازدراءه شعار «النأي بالنفس» لاقتناعه بأنه غير واقعي طالما أن الابتعاد عن أزمات وحروب المنطقة مستحيل لأن هذه الحروب ستحدد مصير دولها ومن بينها لبنان. وهو إن كان يوارب في التعاطي مع شعار «لا غالب ولا مغلوب»، فإن بعض قادته يجاهرون، لمناسبة الخلاف الكبير على نوع التوازن المطلوب في تركيبة الحكومة الجديدة، بأن على من يعاند مطالبه في تمثيل حلفائه فيها، أن يقر بأنه «مغلوب» على الصعيد الإقليمي وبالتالي في الداخل اللبناني.
وراء استعجال الحزب المخاوف الدفينة من أن تتغير المعادلة الإقليمية في ظل تصاعد الضغوط الأميركية من أجل تعديل ميزان القوى الذي أكسب طهران مواقعها في العراق وسورية ولبنان. فهو يريد تثبيت المكاسب التي تحققت حتى لو جاءت هذه الضغوط متأخرة في نظر البعض، إلى درجة التشكيك بالقدرة على تجريد الدولة الفارسية مما صنعه حائك السجاد الطويل النفس.
الاستعجال عند الحزب يوجب عليه التسريع بإحلال العلاقة المميزة مع سورية مكان «النأي بالنفس»، ويدفعه إلى استخدام لبنان منبرا لإعادة سورية إلى الجامعة العربية، لأنه أحد مؤشرات تثبيت نظام بشار الأسد. والتمهل العربي في هذا التوجه لسبب يتعلق بالدور الإيراني الطاغي في دمشق، يأخذ الحزب إلى مغامرة إلغاء القمة العربية الاقتصادية ، لمجرد أنها تكرس بعض التوازن في علاقات لبنان الإقليمية. فالإيحاء بأن «عودة» العرب إلى لبنان تتم من البوابة السورية (كما قبل عام 2005)، بالتوازي مع عودة سورية إلى الجامعة من البوابة اللبنانية، يلاقي رفضا محليا حتى من حلفاء له، ومعارضة عربية.
استعجال الحزب يستجلب قوى أخرى قد يرضيها إلغاء «النأي بالنفس» كما ظهر من وقائع زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل إلى بيروت، ويعيد لبنان ساحة منازلة.