لم تدعُ الولايات المتحدة لبنان لحضور المؤتمر الدولي الذي دعت إليه في بولندا الشهر المقبل. قال وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إن المؤتمر سيناقش مسائل الشرق الأوسط لا سيما كيفية التصدي للحالة الإيرانية. وسرّبت مصادر الموفد الأميركي ديفيد هيل الذي زار لبنان أنه لم يحمل تلك الدعوة بسبب تفهم واشنطن لخصوصية لبنان.
هذه الخصوصية، نفسها، هي التي يتفهمها أيضا العرب الذين سيحضر قادتهم القمة الاقتصادية العربية في بيروت، على الرغم من أن الدولة المضيفة قد ارتكبت إثم “منع” عضو في جامعة الدول العربية من حضور هذه القمة بقوة التخويف والتهويل. احترمت ليبيا نفسها. امتنعت عن الحضور. حفظ ذلك ماء وجه السلطة الرسمية في لبنان. أُقفل هذا الملف كرمى لعين الخصوصية اللبنانية.
والخصوصية المقصودة، والتي باتت من الصلب الكياني المعترف به عربيا ودوليا، اسمها وهج السلاح. ولئن خاض رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري المعركة، وتولّت قيادات حركة أمل التهويل، ولاحت إمكانات قطع طريق المطار بشكل ميليشياوي، فإن أمر ذلك جرى على قاعدة “فائض السلاح” الذي تمتلكه الطائفة (لا فرق إن كان بيد أمل أو حزب الله)، والذي على أساسه، يُحكم البلد في تفصيلاته الوزارية والإدارية والبلدية، كما في تحديد سياسته الخارجية في مقاطعة دول، وهنا ليبيا، وفي المطالبة بالوصل مع دول، وهنا سوريا.
هذه الخصوصية اللبنانية التي يتفهمها العالم، فيمعن بحقنها بجرعات إضافية تمعن في خصوصيته، تسلّم بأن قوة السلاح في لبنان هي من ثوابت البلد بما يتطلب تفهّم الجامعة العربية والأمم المتحدة والولايات المتحدة. جاء المُوفد الأميركي، الذي يعرف لبنان ولبنانييه، كونه كان سفيرا لبلاده في بيروت، حظي بترحيب رسمي لافت في “دولة حزب الله”. ألقى عظات ضد الحزب وسلاحه وأنفاقه. تنقل يزور القوى “السيادية” دون كثير تعويل من قبلها على مواقف أميركية لم تعد تحظى في بيروت بأي مصداقية مطمئنة.
حزب الله، نفسه، غير قلق من زيارات الأميركيين وجولات موفديهم في المنطقة. اعتبر نفسه غير معني بحراك هيل وتصريحاته، فالأمر يندرج في حسابات واشنطن خارج حدود لبنان. كان الحزب حاضراً، من خلال ما يملكه من نفوذ داخل الطبقة السياسية اللبنانية، الحليفة والمناوئة، لمعرفة ماذا أسرّ رجل أميركا الزائر في مجلسه. الأمر بالنسبة للحزب نزال بين واشنطن وطهران، فلا عجب من أن الرد ضد “استفزازات” هيل جاء من السفارة الإيرانية في بيروت.
يلتئم العرب داخل قمة بيروت الاقتصادية معتبرين أن أمر “طرد” ليبيا عام 2019، والقبول بحضورها في قمة 2002، أمر يقرره الشارع في بيروت. تطالب طرابلس بيروت بالاعتذار عن سلوك نالَ من كرامة ليبيا، دون أن يعتبر العرب أن الأمر يعنيهم، وأن من واجب جامعة الدول العربية أن تطلب هذا الاعتذار، أو أن تعلق قمة أوصدت بيروت باب حضورها على أحد أعضائها.
ليس في الأمر غرابة. سبق للعرب أن تفهموا الخصوصية اللبنانية حين منع الرئيس اللبناني الأسبق، أميل لحود، في قمة بيروت 2002 الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من التوجه نحو القمة عبر الأقمار الصناعية. جرى أمر ذلك لحساب دمشق. نفذت بيروت المغلوبة على أمرها أمر عمليات سوري كاره لعرفات، فيما تمتثل بيروت هذه الأيام لأمر عمليات يعاقب العرب جميعا، من خلال المناسبة الليبية، بسبب ارتكابهم إثم تعليق عضوية سوريا داخل الجامعة العربية، وإثم عدم رفع هذا التعليق حتى الآن.
يجول ديفيد هيل في لبنان داخل “دولة حزب الله”. يعرف الرجل أن أمن زيارته وأمانها مرتبط بقرار الحزب. بمعنى آخر فإن طهران هي من تقرر طبيعة العلاقة التي تربط بيروت بواشنطن وهي التي، وحتى إشعار آخر، لا تضيرها المساعدات العسكرية الأميركية للجيش اللبناني. يعرف هيل أن أيادي إيرانية هي التي سبق لها تفجير السفارة الأميركية في بيروت، وهي التي فجرت ثكنة المارينز في لبنان. حينها سكتت واشنطن. سحبت قواتها. وتفهمت الخصوصية اللبنانية.
تستقبل “دولة حزب الله” القادة العرب، فيما تعلن مجددا، ومن خلال جولة وزير الخارجية مايك بومبيو في المنطقة، أن ثماني دول عربية، من تلك التي تحضر قمة بيروت، ستشكل تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي (ميسا) الذي يطلق عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب اسم “ناتو العرب”. يعلن بومبيو، وقبله ترامب، أن هدف الحلف هو مواجهة إيران. سبق لقادة أركان الدول الثماني أن اجتمعوا في الكويت وسبق لوزراء خارجية هذه الدول أن التقوا في واشنطن. وعليه فإن طهران، التي جاهرت بعدم إيمانها بأي مصداقية لتحالف عسكري إقليمي ضدها، لا يضيرها أن ترعى بيروت قمة تأخذ بالاعتبار الخصوصية اللبنانية، في بعدها الإيراني على ضفاف البحر المتوسط.
بات خصوم إيران وحزب الله اللبنانيون يتعايشون مع هذه “الخصوصية”. شهدوا بأم العين سقوط قادة لهم، بدءا من رفيق الحريري، واحدا تلو الآخر. عايشوا هجوم “7 أيار” وتعايشوا مع واقعة أن يقوم حزب الله وحلفاؤه بالانقلاب على حكومة سعد الحريري عام 2011، فيما الرجل مجتمعاً، في البيت الأبيض، مع باراك أوباما، زعيم أقوى دولة في العالم. عرف خصوم الحزب ذلك. باتوا مقتنعين بعجز العواصم الكبرى، غير آبهين بتصريحات ديفيد هيل ومواقفه عنهم قبل أيام.
يقرّ العالم والعرب أن “فائض القوة” عند حزب الله وليس قوة الدولة هو ما يحكم لبنان. بكلمة أخرى، وحتى إشعار آخر، يساق لبنان وفق منطق الميليشيا وليس وفق قواعد النظام الدولي. تعتبر واشنطن أن دعم الجيش اللبناني هو دعم للدولة ضد الميليشيا، وتعتبر دول مؤتمر “سيدر” أن دعم لبنان اقتصاديا هو دعم للدولة ضد دويلات الميليشيات. وعلى أساس تفهّم الخصوصية اللبنانية، يتموضع العالم أجمع، متخلياً عن قواعد وأصول وأعراف وتقاليد، للإقرار بحالة التعايش ما بين الدولة والميليشيا في هذا البلد بالذات، وربما دون غيره.
على هذا تقرر الميليشيا انتخاب رئيس للجمهورية من عدمه. وتحدد الميليشيا هوية هذا الرئيس مقفلة الطرق على غيره. وتحدد الميليشيا اسم رئيس الوزراء وشكل حكومته، وهي التي بيدها الإفراج عن الصيغة الحكومية العتيدة وتوقيت ولادتها وموقع السلاح في بيانها الوزاري. على هذا تتعايش كل مؤسسات الدولة اللبنانية، كما كل المنابر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مع هذه الحقيقة بصفتها أصلا بنيويا، على النحو الذي تتعايش معه المؤسسات العربية والدولية الكبرى.
كان للإمام السيد موسى الصدر مقولته الشهيرة “السلاح زينة الرجال”. بات السلاح مرادفاً لصورة لبنان في الخارج يُمثّل داخل المحافل الدولية ويتم تفهمه داخل النصوص الرسمية للمؤسسات السياسية العربية والدولية. وعليه بات السلاح متناً، فيما تصريحات هيل و“طرد” ليبيا من قمة بيروت، تفاصيل تُلقى على الهامش إكراما لـ“الخصوصية” اللبنانية.