خرجت بكركي عن صمتها، وأخرجت معها الوزراء والنواب الموارنة بعدما وضعتهم امام مخاوفها وفي مواجهة التحديات الكبيرة التي يحاولون غض النظر عنها. المواجهة حتمية بين مشاريع لا تلتقي، ورؤى تتباعد ما بين اصحاب نظريات تقليدية، بل متخلفة، الى واقع البلد ومستقبله، وتغييريين غير رؤيويين، لا يملكون الاسس ولا الخبرة في بناء الدول وتفعيل المؤسسات. والمواجهة لا تعني شارعا في مقابل شارع، بل هي مواجهة بالحسنى، لئلا ينزلق البلد الى ما لا تحمد عقباه.
المناصب السياسية تعني أصحابها، والجموح الماروني نحو الرئاسة ليس جديدا، لكنه يجب ان يحافظ على أرجحية العقل، والحكمة، والوطنية، فلا يباع الغالي ويضحى به لرئاسة زائلة حتما بزوال البلد. واذا كان البلد باقيا شكلا، فان الرئاسة تصبح شكلية، والرئيس الماروني يصبح مكسر عصا إذا ما اختلف الطرفان المسلمان، ويصبح عصا اذا ما اتفقا عليه وعلى محاصرته، والتحالف الرباعي لا يزال ماثلا امام من يتذكرون.
في رده على طرح الرئيس نبيه بري اقامة الدولة المدنية، قال النائب “القواتي” السابق ايلي كيروز “إن الدولة اللبنانية الحالية، دولة لبنان الكبير، دولة الدستور والجمهورية، دولة الميثاق والاستقلال، هي دولة مدنية”. وليسمح لنا النائب الكريم لانه لم يصب في كل وصف، بل اعتمد سياسة معظم الموارنة في دفن رؤوسهم بالرمال، وقصر رؤيتهم على المساحة الممتدة من الاشرفية الى المدفون وقرى بشري. فالدولة اللبنانية الحالية هي اللادولة، وإلا كيف يمكن تفسير الانقسام الحاصل حول القمة الاقتصادية العربية ومحاولة جزء من الدولة تعطيل انعقادها بكل الوسائل؟ ودولة لبنان الكبير صارت دويلات صغيرة. ودولة الدستور والجمهورية، يداس فيها الدستور كل يوم، وتخالف القوانين، وتنتهك المؤسسات، ولم يبق من الجمهورية الا “لقاء الجمهورية” الصوت المنادي في البرية. اما دولة الميثاق والاستقلال فحدث ولا حرج. بالامس طلع نائب يسمي ابطال الاستقلال من عندياته، والميثاق ضرب في بيت ابيه وانتهك، وابرز وصف لوضعه قالته بنت الاستقلال ليلى الصلح: “الوطن أبطاله في القبور وناهبوه في القصور”. وبعد، هل لبنان دولة مدنية؟ دولة يجتمع فيها المجلس الدرزي اليوم، بعد لقاء بكركي الماروني امس، وقبلهما اجتماع المجلس الاسلامي الشرعي الاعلى، واجتماع المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى. وكل هذه اللقاءات تتحدث في السياسة وتحكم في ابناء طوائفها او يستعملونها في السياسة لا فرق في منظومة مصالح متبادلة.
بالامس، خرج بيان بكركي ليؤكد الثوابت فيدعو الى “وجوب تطبيق الدستور، نصًا وروحًا، ورفض تحويل اي استباحة له الى عرف جديد واعتبار المؤسسات الدستورية الإطار الوحيد لمناقشة الأزمات السياسية وحلِّها ورفض جميع الأساليب التي تهدّد بالانقلاب على الدولة او السطو على قرارها”.
بيان جيد، بل ممتاز، استدعى زيارة موفد من رئيس المجلس للبطريركية المارونية، لاعادة لملمة الامور. ولم يكن الامر ليحصل لولا رفع الصوت. ولبكركي، التي قيل ان مجد لبنان اعطي لها، ان لا تتنازل، او تتراجع، امام الانقلاب الممنهج على الدولة، والذي لم يعد خافيا على احد، فتبقى مستحقة ذلك المجد.