المشهد في «الجَمعة المارونية» كان مثيراً للإهتمام هذه السنة. فالرئيس ميشال عون يحرس قصر بعبدا وترك للبطريرك مار بشارة بطرس الراعي لعب دور «الأبوة المارونية» ورعايتها، بالتنسيق مع وريثه في «التيّار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل.
«الجلسة المارونية» الموسّعة افتقدت أيضاً حضوراً وازناً للرئيس السابق أمين الجميّل، الذي اختار طوعاً وباكراً الخروج من المعادلة الرئاسية والحزبية، فيما اقتحم وريثه الشيخ سامي الجميّل رئاسة «حزب الكتائب» ولعب دور أبيه «العنيد».
وامّا الثابتان في اللقاءات الماضية، الحالية، والمستقبلية فهما جعجع - فرنجية، اللذان شكّلت عداوتهما وتلاقيهما المفاجأة الأكبر والأمثولة السياسية الأنسب داخل المجتمع المسيحي، هما الزعيمان المارونيان «المتفقان اليوم في التنسيق»، حسب قول النائب طوني فرنجية، «والمختلفان في السياسة»، حتى اليوم، «بعكس العلاقة بين باسيل- فرنجية» المتفقان حتى الساعة ظاهريّاً في السياسة والمتصارعان في التنسيق بسبب تنافسهما على موقع الرئاسة وليس فقط على أحقيّة الثلث المعطّل.
نجح الراعي في جمع بعض الأقطاب الذين يتنافسون على كرسي الرئاسة، تحت قبة بكركي، للضرورة الوطنية. ولكن «السلام الفاتر» بين المرشَحين الأبرَزين في مستهل الإجتماع كان نافراً، وأكّد التباعد بين الرجلين، فيما غاب «الحكيم» بداعي السفر، لكن ملائكته حضرت بقوة في الصف الأمامي، وكان لافتاً مقعد مُستجدّ لرئيس «حركة الإستقلال» النائب ميشال معوّض.
آخر الواصلين وأوِّل المغادرين كان الوزير باسيل، لكن أعضاء كتلته كانوا قد سبقوه وبدأوا بالعمل، فعقد النائب ابراهيم كنعان خلوة مع ممثل قائد «القوات اللبنانية» النائب جورج عدوان قبل بدء الجلسة لتفادي التطرّق الى الامور الخلافية داخل الجلسة والتنسيق في طرح الأفكار المشتركة للبناء عليها مع مختلف الفرقاء.
سليمان فرنجية «نحن هنا»
وصول زعيم «المردة» كان له وقعه الخاص، في وقت ردّد البعض ممن واكب التغطية للنهار التاريخي، بأنّ حضور فرنجية خفّف من وطأة هيمنة حضور باسيل الذي اتٌهم بتدبير الإجتماع، وبأنّه المتحمّس الأكبر له، الّا انّ قرار فرنجية الحضور قبل يوم واحد من الإجتماع فاجأ المتابعين وفاجأ حتى البعض من الأقطاب الذين توقعوا عدم حضوره، في وقت يبدو أنّ أسباب المشاركة برأي زعيم المردة ونوابه ومناصريه متعددة، تطلّبت التعالي على الخلافات وتلبية دعوة بكركي.
هذه الدعوة المستعجلة والطارئة التي لا يمكن لفرنجية تحديداً تحمّل تداعيات عدم تلبيتها برأي البعض، الذي عزا أيضاً قرار فرنجية الحضور، للقول بكل بساطة «نحن هنا» وليس لدعم مطالب التيّار، بعد رواج معلومات عن مسودّة مطالب لـ«التيار الوطني الحر» تمّ التحضير لطرحها وبحثها مع الحاضرين. لكن هذا لا يعني انّ كلّا من باسيل او فرنجية لم يستشعر الخطر الوجودي للمسيحيين وضرورة تحصين مواقعهم في الدولة وحقوقهم المكتسبة الموثقة في الدستور، بعد استشعار الخطر الذي يدق أبواب أسوارهم المسيحية!
الأمر نفسه ينسحب على مختلف الأقطاب والفاعليات والوزراء والنواب الموارنة، التي لبّت نداء الراعي، بسبب الأجواء السياسية العاصفة ولم تردعها حالة الطقس في يوم «كانوني» بارد وعاصف بامتياز .فيما اعتذر النائب جان عبيد عن الحضور لأسباب صحيّة معلناً إستعداده لوضع نفسه وموقفه في تصرّف أي قرار يتّخذه المجمع البطريركي.
مشاهدات
الممثل الرئيسي لجعجع جلس مكانه، وطالت خلوته العفوية وقوفاً مع زعيم تيار المردة قبل بدء الإجتماع، وكانت الضحكات خلال حوارهما واضحة كذلك المشاورات التي دارت بين الرجلين خلال عقد اللقاء.
الراعي: «الوديعة الثمينة» في خطر
بدأ اللقاء بصلاة للقديس انطونيوس لمناسبة عيده، الذي يُصادف في مثل هذا اليوم، تلاها البطريرك الراعي الذي جلس باسيل عن يمينه وفرنجية عن يساره، من ثم افتتح الراعي النقاش بكلمة أكّد فيها انّ اللقاء المُنعقد اليوم هو من اجل لبنان وكل اللبنانيين ...ولأنّ «الوحدة اللبنانية»، التي سمّاها البطريرك الياس الحويك «الوديعة الثمينة» مهدّدة اليوم . كما حيّا الراعي الحضور باسم أسرة الكرسي البطريركي الذي وصفه البطريرك انطون بطرس عريضة بالصرح الوطني حسب تعبير الراعي.
تميّزت كلمة البطريرك باستحضار ملفت للبطاركة الأسلاف، مستشهداً بمواقفهم الوطنية. امّا البيان الختامي، فقد تمّت صياغته بشكل متبنياً كلام الراعي من حيث المضمون، لجهة المحافظة على الدولة التي تتم من خلال تطبيق الدستور، كما تناول البيان شؤوناً بنيوية للنظام وتعثر تشكيل الحكومة.
النقاش
من حيث الشكل، نجح الاجتماع في خلق مشهد جامع استطاع استصدار بيان له طابع وطني متفق على الثوابت، ويعتبر بياناً قويّاً في المضمون، والأهم انّه استطاع نزع تواقيع كافة الأطراف المسيحية المتباعدة عليه في ختام اللقاء. لكن، هذا لا يعني انّ الأجواء المسالمة، هي وحدها التي سادت خلال النقاش.
تحدث اكثر من 20 شخصية مارونية، الأبرز فيها كلمة رئيس تيار «المردة» الذي تطرّق غير مرة الى الوضع السياسي، فيما لفت البعض قول فرنجية:
«الأهم من المضمون ان نتذكر بعد اللقاء الذي حصل بين المسيحيين عند البطريرك عام ١٩٧٨ الى اين أدّى ؟ مستذكراً حادثة اهدن التي حصلت بعد اسبوعين من اللقاء. فيما تساءل البعض ممن شارك في الإجتماع عن سبب استحضار فرنجية لهذا الحدث.
وفيما لاحظ البعض في كلمة الراعي خوفاً على الثوابت أكثر من خوفه على الحكومة، استحضر فرنجية في مداخلته الثانية الوضع الحكومي، محمّلاً مسؤولية التعطيل الى سوء الادارة للأوضاع المسيحية، بعد اعتباره انّ المطالبة بحقوق المسيحيين وتخويفهم من سقوط مبدأ الشراكة، هي شعارات شعبوية تؤدي الى «تفويت المسيحيين بالحيط.
اما الوزير باسيل، الذي تكلّم بعد فرنجية، فتجنّب الرد عليه بالمباشر واكتفى بكلمة وجدانية. وتلاه بالكلام النائب جورج عدوان الذي كان كلامه موضوعيّاً ولاقى تأييد جميع الحاضرين ...بعدها تحدث النائبان نعمة افرام وميشال معوض، وركّزا بكلامهما على هواجس البطريرك.
وقال النائب نعمة افرام: بغضّ النظر عن الأعداد، فميثاق لبنان ارتكز في فلسفته على قيام دولة، يرتبط ثبات بنائها بتوازن التعدديّة المسيحيّ – الإسلاميّ. المسيحيّ: الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك وسائر الطوائف المسيحيّة الأخرى. والإسلاميّ: السنّة والشيعة والدروز وسائر الطوائف الإسلاميّة الأخرى. فلا ثنائية ولا ثلاثية، بل سداسية. وأي طرح مختلف، يناقض مجمل المواثيق الوطنيّة.
وأضاف: إذا خُيّر الموارنة بين الحريّة والعيش المشترك، فليكن معلوماً للجميع أنهم سيختارون الحريّة. أما خيارهم الأول والأكيد، فهو مثلث الحريّة والعيش المشترك والإنتاجيّة. وإذا كان من تطوير مطلوب للنظام، فهو لتحفيز الإنتاجيّة فقط لا غير. انّ تجربة الشلل الدستوريّ والقانونيّ والاقتصاديّ في آليات اتخاذ القرار، هو السبب الرئيسيّ في مديونية الدولة وتدهور مستوى حياة الانسان.
الّا انّ النائب فرنجية تدخّل بقوله انّه «يسمع في الآونة الأخيرة كلاماً نظرياً ليس منه فائدة، فلندخل الى الإساس وصلب المشكل وطرح المواضيع كل واحد على حدة، وكل موضوع نتفق عليه نضعه جانباً وننتقل الى موضوع آخر بعد ان يأخذ كل طرف موقفاً نهائياً منه» ... وطلب فرنجية من الحضور البدء بالموضوع الحكومي.
لكن المتكلمين من بعده لم يتطرّق احد منهم الى الموضوع الحكومي بل فضّلوا مناقشة كلمة البطريرك التي صُنّفت بالأقوى بين الكلمات لناحية التصويب على هدف اللقاء واعلانه التصدّي لكل محاولات تبديل هوية لبنان التاريخية التي طبعت دستوره، محذراً من صنع هوية جديدة للبنان مغايرة لحقيقته.
كلمات الحضور دعمت الرئاسة ومؤسسة الجيش والشراكة ودور المسيحيين في الدولة، الا انّ رئيس تيار «المردة» عاد الى طرح موضوع الأزمة الحكومية وقال: «بصراحة نقرأ منذ مدة في الصحف انّ هذا الاجتماع عُقد لدعم العهد، فلم نفهم الأمر، هل يعني اننا اذا لم نسر بـ ١١ وزيراً لا نكون داعمين للعهد ؟ وهل يـُختصر عملنا ودورنا على تغطية ١١ وزيراً لكم ؟»، وأضاف: «انّ إصراركم على الحصول على ١١ وزيراً لا نعتبره في وجه الطائفتين السنّية والشيعية بل هو بوجهنا، اي الأطراف المسيحية التي لم تمشِ معكم، لذلك تريدون الغاءها من المعادلة. ولو انّكم تحسبوننا الى جانبكم كنتم اعتبرتم انّ لكم في الحكومة ١٥ وزيراً».
وأضاف بموقف متشدد: «اذا بيتنازل جبران باسيل عن وزير بتركب الحكومة وانا بعرف انو انتو كتيّار شاطرين بتحمّل الضغط واللعب على عامل الوقت للحصول على ما تريدونه لكن حزب الله أشطر منكم».
وهنا، حاول البطريرك احتواء النقاش وتهامس مراراً مع فرنجية لتبريد الأجواء، كما لعبت «القوات» دوراً إيجابيّاً عبر عدوان الذي قال انّه في النتيجة هناك مكتسبات مسيحية نحن نريد المحافظة عليها، واذا وصلنا الى ما وصلنا اليه بغض النظر عن خلافاتنا، لدينا اليوم للمرة الأولى هذا الحجم من التمثيل لذلك، يجب الحفاظ على هذا الحجم. وكان لافتاً ما طرحه عدوان حين قال: «اتينا اليوم لنعرف ان كنّا ندخل في أجندة حزبية في هذا الإجتماع أم أجندة مسيحية ؟ وعليه، هناك مقاربتان، اذا كنا ندخل في اجندة حزبية فكل حزب يحق له طلب ما يريد، ولكن اذا كانت الأجندة مسيحية يجب علينا المحافظة على المكتسبات المسيحية بغض النظر عمّن يحصل على هذه المكتسبات المسيحية».
وفيما لوحظ انّ باسيل أومأ بنظراته تجاه نواب «لبنان القوي» لثنيهم عن الرد على فرنجية، فضّل النائب زياد اسود الإجابة على طريقته بقوله: «التيار لم يطالب بوزير اضافي، واذا حصل ذلك فهو مكسب للمسيحيين».
ثم سارع باسيل للرد بدبلوماسية، فقارب الدور المسيحي وما هو مطلوب منه وكيف ادّت المعركة الإنتخابية الى تحسين التمثيل المسيحي، بمعنى انه كان هناك ١٥ نائباً مسيحيّاً في الماضي فيما اصبح عددنا اليوم ٣٦ ونحن هنا جميعاً».
واضاف: «لا افهم كيف الربط بين الثلث المعطل؟ موضحاً اننا لم نطالب يوماً بالثلث المعطل بل هو جاء نتيجة حجم التكتل! فهل اصبح ممنوعاً لأنه حدّد نتيجة حجمنا؟».
واضاف: «المشكل في الاساس هو في السياسة سنّي- شيعي. فلماذا المطلوب من الرئيس المسيحي ان يتنازل عن الحقوق المسيحية والحصِّة المسيحيّة لمعالجة ازمتهم. وإلاّ ما في حكومة؟! في الوقت الذي يجب ان تكونوا انتم الذين تدافعون عن الحقوق المسيحية».
بدوره، لفت النائب معوض الى انّ المعركة اليوم ليست في وجه ميشال عون كشخص بل في وجه الرئاسة القوية والرؤساء جعجع، باسيل، فرنجية أو غيرهم ممن قد يصلون الى الرئاسة المارونية.
وتطرّق معوض الى موضوع سلاح «حزب الله»، وكذلك فعل النائب سامي الجميل الذي اعتبر انّ سلاح الحزب هو المشكلة الأساسية التي يجب إدراجها ضمن أولويات المواضيع المطروحة.
ولفتت مداخلة النائب فريد هيكل الخازن الذي عارض إصدار بيان موحّد عن اللقاء، مبرراً انّ لا لزوم للبيان والإكتفاء بكلمة مؤيّدة لكلام البطريرك، لأنّ الفرقاء مختلفون، ونعتبر الأولوية اليوم ليست في استحضار الحلول، بل المطالبة بتشكيل الحكومة، لانّ الناس جائعة ولا يهمها وزيراً بالزائد او بالناقص ولا يعنيها طموح البعض لانّ بيوتها خربانة والمؤسسات تُقفل ابوابها. الا انّ الراعي احتوى الموقف وأصرّ على اصدار بيان بالإجماع.
عملياً، اللجنة التي تشكّلت استلهمت افكارها من مسودة البيان التي خطتها بكركي وتجاوبت كافة الأطراف المشاركة في اللجنة عند كتابة صيغة البيان النهائية، فيما لوحظ غياب التشنج الذي رافق المناقشات اثناء اللقاء الذي تحوّل عند صياغة البيان الى توافق وإجماع إيجابي.