ينطلق المؤرخ عبد الرحيم أبو حسين في كتاب "صناعة الأسطورة: حكاية التمرّد الطويل في جبل لبنان"(دار الساقي- 2019)، من لازمة أن التّاريخ إحدى القضايا الأساسيّة التي لا يتّفق عليها المؤرّخون اللبنانيون، أو اللبنانيون بصورة عامة. فالتاريخ صراع وأوجه وسؤال ووجهة نظر وأيديولوجيات وتيارات وسرديات. ويتمحور الكتاب حول "التمرّد" الذي صنع لبنان الكبير، على مدى أربعة قرون في مقاومة العثمانيين. هذا التمرّد الذي غيبتّه المصادر التقليدية اللبنانية. ويستند أبو حسين في انطلاقته، الى المؤرخ كمال الصّليبي الذي يشرح كيف أثّرت القراءات المختلفة للماضي في أقوال القادة اللبنانيين وأفعالهم، وذلك في فصل عنونه "الحرب على تاريخ لبنان" من كتابه "بيت بمنازل كثيرة"، كما يشرح في هذا الكتاب كيف أنّ اللبنانيين خاضوا الحرب الأهليّة الأخيرة (1975-1990)، في حقيقة الأمر، حول التاريخ بمقدار ما كانت تلك الحرب لتنظيم تقاسم السّلطة بين مختلف الجماعات الدينيّة والسّياسية والأحزاب في البلد.
ويسلّط أبو حسين الضّوء على التّطورات المحليّة لعملية تّشكّل لبنان الكبير بعد إعلانه في الأول من أيلول/سبتمبر1920، على لسان الجنرال الفرنسي غورو. جاء هذا الإعلان بعد ضغط شديد على فرنسا من قبل قادة الكنيسة المارونيّة، يؤيّدهم في ذلك العديد من عموم أبناء الطّائفة. ومن المؤكّد أنّ الدّور الفرنسيّ والدّور المارونيّ كانا حاسمين في ولادة لبنان بحدوده الحالية. ويعني بذلك تطورات الأوضاع السّياسية والمواقف العملية لبعض الجماعات التي أدت إلى نشوء الكيان السّياسي الذي قام حوله لبنان المعاصر. ومن هذا المنطلق، لا يمكن اعتبار لبنان الحديث مجرد حدث عرضيّ للسّياسات الدّولية أو المساعي المارونيّة. فالمنطقة الجغرافية التي تشكلّ الرّقعة الجغرافية المركزيّة التي تكوّن لبنان حولها في 1920 تشمل ما سمّاه العثمانيّون في استعمالاتهم الإداريّة سنجق صيدا- بيروت، وكان جزءاً من ولاية دمشق حتى العام 1660. وبخصوص هذه النّواحي، كان سكان إقليم الخروب من المسلمين السّنة في غالبيتهم، وما زال الأمر كذلك حتى الآن. بينما كان الشّوف والغرب والجرد والمتن، موطن الدّروز التّقليدي، إلّا أنّ هذه المناطق شهدت حركة استيطان مسيحيّ كثيف منذ بداية القرن السّابع عشر. أمّا كسروان التي كانت مأهولة بالمسلمين الشّيعة الإثني عشريين لفترة طويلة، فكانت تشهد استيطاناً مارونياً متزايداً بفعل النّزوح المارونيّ من منطقة طرابلس، وعلى هذا كان لبنان يشهد تحولات ديموغرافية دائمة، ربما لم تتوقف حتى الآن.
والكتّاب اللبنانيون والعرب، بمن فيهم المؤرّخون، وكذلك الكتب المدرسيّة، وأكثر أشكال كتابة التّاريخ شعبية التي تقدمها المقالات الصّحافية والمسرحيات والأفلام، تمجّد المقاومة المفترضة ضد العثمانيين من دون تقديم أيّ دليل يثبت وجودها. يسمع المرء، أو يقرأ، في لبنان تصريحات مفادها أنّ اللبنانيين قاوموا العثمانيّين (أو التّرك) مدّة أربعمئة سنة، لكن من دون تقديم أمثلة ملموسة على هذه المقاومة. وما يقول المؤرخ به هنا، هو أنّ اللبنانيين، من وجهة نظر تاريخيّة، قد يكونون أحقّ من جيرانهم العرب بهذا الادّعاء، إلّا أنّ الطّائفة اللبنانية الأكثر إدّعاءً لهذه المقاومة (الموارنة) لم تكن قائدها الرّئيس، ولا المشارك الأساسيّ فيها. هذه المقاومة (الدرزية) التي اتّخذت الشكل الذي يسمّيه المؤلف "التّمرّد الطّويل"، أنتجت، عن غير قصد، ما يمكن أن نصفه ببداية تشكّل نوع من الكيان "اللبناني" والتي كانت الخطوة الأساسيّة التي مهّدت لقيام متصرفية جبل لبنان (1861) المتمتّعة بالحكم الذّاتي والاعتراف والضّمان الدّوليين. وهي "المقاومة" التي أنتجت للبنانيين أبطالهم الوطنيين التّاريخيين ونضالهم القومي "البطوليّ". ولهذا التمرد أو "المقاومة" أهميّة مركزيّة في إنجاز ما تقدّم، إضافة إلى خلق الشّروط المادّية والكيان السّياسيّ الذي تلا ذلك.
فقد انفجر التّمرّد الدرزي مراراً وتكراراً، بين 1518 و1697، وكان الأمر دائماً مبعث قلق للسّلطات العثمانيّة الإقليميّة والمركزية على حدّ سواء. يحاول المؤرخ أن يتعقّب مسار هذا التّمرّد، الذي شكلّ ظاهرة طبعت القرنين الأوّلين من الحكم العثمانيّ في لبنان وبلاد الشّام، مع أنّ الدّراسات الحديثة حول تاريخ المنطقة لا تلحظ هذا التّمرّد. ولم تكن الكتابات عن هذا الموضوع محدودة فحسب، بل اعتمدت على مصدر واحد يعكس هوى صاحبه. وهذا المصدر الوحيد هو تاريخ البطريرك المارونيّ إسطفان الدّويهي، الذي تربّع على السّدّة البطريركية من 1668 إلى 1704. وهو كان يصمت صمتاً مريباً عن معظم مجريات هذا التّمرّد، ولا يشير إلى الهجمات العثمانية المبكّرة على المناطق الدرزية، بل يكتفي أحياناً -مضطراً- بشرح بعض أحداثه بطريقة يبرّئ فيها قادة التّمرّد من أيّ مسؤوليّة.
تفيد المصادر التّاريخيّة بأنّ حادثة التمرّد الأولى التي شهدت تورّطاً لزعماء من الدّروز، حصلت بعد الفتح العثمانيّ لبلاد الشّام بفترة قصيرة. وفي هذا الصّدد، يروي المؤرّخ الدّرزي ابن سباط (توفي 1520) أنّه في العام 1518، ألقي القبض على أربعة من الأمراء الدّروز كان أحدهم من البحتريين، أمّا الثّلاثة الآخرون فكانوا من المعنيين. وقد ألقي القبض عليهم حينذاك لاشتراكهم في عصيان قاده ناصر الدّين محمد بن الحنش، ضدّ السّلطان سليم الأوّل. واكتسب التمرّد بُعداً خطيراً لأنّ الدّروز أصبحوا يمتلكون الأسلحة النّارية. وصدر أمر جديد لوالي دمشق بأن يهاجم الدّروز، ويجردهم من السّلاح، مع تزويده بقوات عسكرية إضافيّة من الولايات المجاورة لتساعده في الحملة. وهكذا، خلال مدة قصيرة لا تزيد على عشر سنوات بعد ذلك، امتدّت حالة التّمرّد إلى كافّة مناطق الدّروز، بل وإلى خارجها. وهذا لا يشير إلى انتشار التمرّد إلى خارج المناطق الدرزيّة فحسب، بل يعني أيضاً أنّ السّلطات العثمانيّة في اسطنبول أصبحت تقرن التمرّد بالدروز في كافّة أرجاء منطقة جبل لبنان.
تجار البندقية
استمرّ حكّام دمشق العثمانيّون برفع التّقارير عن التّمرّد الدّرزي، وعن استمرار الدّروز بامتلاك الأسلحة النّارية، خلافاً للأوامر، ورغم الإجراءات الرّادعة. بعد سنوات قليلة، اتسع التّمرّد إلى خارج منطقة جبل لبنان، ليشمل الدّروز والشّيعة في سنجق صفد جنوباً. وفي العام 1585، انطلقت حملة تأديبية عثمانيّة كبيرة ضدّ الدّروز، بإمرّة القائد إبراهيم باشا على رأس قوّات تجمّعت من مختلف ولايات بلاد الشّام والأناضول. وهناك إشارات واضحة، رغم قلّتها، إلى أنّ البنادقة (تجار البندقية) هم الذين كانوا يزوّدون الدّروز بالسّلاح من قاعدتهم في قبرص، أو من مواقع أخرى.
ومن المعلوم أنّ البندقيّة كانت الشّريك التجاريّ الرّئيس لكلّ من بلاد الشّام ومصر، وقد ازدادت أهميّة هذين البلدين لتجارة البندقيّة، خصوصاً في أعقاب الفتح العثمانيّ للقسطنطينية العام 1453. كانت البندقيّة قد أصبحت عمليّاً تحتكر التّجارة مع هذين البلدين في نهاية القرن الخامس عشر. والبنادقة كانوا يستوردون، إضافة إلى التّوابل، كميات كبيرة من القطن السّوري، وذلك رغم السّياسة العثمانيّة التي كانت تمنع تصدير القطن، وتعتبر ذلك أمراً غير مشروع. واكتسبت بلاد الشّام ومصر، أهميّة تجاريّة كبيرة بالنّسبة إلى البندقيّة بعد الفتح العثمانيّ للقسطنطينية، وتوسعهم في مناطق روميليا وبحر إيجه والبحر الأسود. هذا التّوسّع العثمانيّ مثّل تهديداً شديد الخطر على المصالح التجاريّة للبندقيّة، رغم الاتفاقيات الموقّعة بين الدّولة العثمانيّة وبينها. وقد دفع اليأس بالبنادقة إلى التّفكير جدّياً في دعم أوزون حسن، ليشنّ حربه على الأراضي العثمانيّة من بلاد الشّام، وكانوا بذلك يخاطرون بفقدان موقعهم المميّز لدى السّلطنة المملوكيّة. وبلغ الأمر بهم، إرسال الرّجال والسّلاح إلى أوزون حسن لدعمه في الحرب المتوقّعة.
وعلاوة على ذلك، ومع الأخذ في الاعتبار أنّ البنادقة والعثمانيّين خاضوا حروباً عديدة في ما بينهم، يمكننا أن نفهم محاولات البندقيّة لزعزعة السّلطة العثمانيّة في بلاد الشّام في سياق هذا الصّراع. بل يمكن الذهاب أبعد من ذلك، وربط هجوم العام 1520 على ميناء بيروت، بمحاولة البندقيّة اليائسة للسّيطرة على أحد الموانئ الأكثر حيويّة لتجارتها مع بلاد الشّام. لذا، لا بدّ أن يكون تزويد الدّروز بالأسلحة قد خدم أهدافاً متنوعة للبندقيّة: تجاريّة وسياسيّة ودينيّة.
ويتّضح أنّ التّمرّد الدّرزيّ ضدّ العثمانيّين حتى العام 1633، وربما حتى النّهاية في 1697، كان يتغذّى إلى حد كبير من المخطّطات الأوروبيّة السّياسيّة والتجاريّة والدينيّة المرسومة لبلاد الشّام. أمّا على المستوى المحلي، فقد أتاح هذا التّمرّد الطّويل الفرصة لتأسيس إمارة الشّهابيين السّنّة، التي كانت تدبيراً اتخذ بمبادرة درزيّة ووجد فيه العثمانيّون - الذين تخلّصوا في النّهاية من المعنيّين - مصلحة لهم، خصوصاً حيث تضاءلت قدرتهم على الإكراه وفرض الطّاعة بشكل ملحوظ، ليس فقط بسبب "التّمرّد الطّويل" سابق الذِّكر، لكن أيضاً بسبب حربهم المستمرّة على الجبهة النّمساوية وهزيمتهم فيها. وقد أعطى هذا التدبير، الذي شمل أواسط جبل لبنان وجنوبه، من العام 1697 حتى 1841، لهذا الكيان، طابع "الإمارة" الوراثيّة.
أما فخر الدّين الذي تُصوِّره كتب التاريخ باعتباره "بطل لبنان الأوّل والمثل الأعلى للقائد الوطني الملهم المسؤول الذي يجسد روح الأمة اللبنانية، وأمانيها السّامية"، فقد اخضع كمال الصليبي صورته المثاليّة للتمحيص، قبل أن يبدأ استخدام الأرشيف العثمانيّ في دراسة التّاريخ اللبنانيّ بوقت طويل. ويخلص الصّليبي، الذي يستند اليه ابو حسين في نهاية بحثه، إلى أنّه: "ما أن ظهر هذا الكيان اللبنانيّ بوضوح في عهد الأمير بشير الشّهابيّ الثّانيّ حتّى أخذ اللبنانيون يبحثون عن تفسير تاريخيّ لهذا الكيان، فبرزت أسطورة فخر الدّين، الأمير الدّرزي الذي تربّى في بلاد الموارنة وقضى حياته في السعي البطوليّ الواعي إلى خلق وحدة لبنانيّة. وقد ابتدأت هذه الأسطورة صغيرة في أوّل الأمر، ثمّ نمت مع نمو لبنان حتى أصبح فخر الدّين في نظر اللبنانيين اليوم، رائد الاستقلال اللبنانيّ ورمز الوحدة".
واستطراداً، كتب أسامة مقدسي في "ثقافة الطائفية"، مُظهراً أن فكرة الطائفية في لبنان انبثقت بشكل واضح جدًا في القرن التاسع عشر. وعليه، فإنها ليست مؤامرة عثمانية، ولا اختراعًا أوروبيًا، كما أنها ليست طبيعة لبنانية، وإنما تعكس تحلل النظام الاجتماعي اللبناني التقليدي وسط وجود أوروبي متنامٍ وإصلاحات عثمانية كبرى في الشرق الأوسط. كما أن العنف الديني بين الموارنة والدروز، والذي تُوّج بمجازر العام 1860، كان تعبيرًا مركبًا ومتعدد الطبقات عن التحديث، لا رد فعل بدائياً له. وكانت الطائفة المارونية، من بين الطوائف اللبنانية العديدة في جبل لبنان، قد برزت في أعقاب الحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر، كطائفة متفوقة في العديد من النواحي، وبقيت الكنيسة المارونية المؤسسة الوحيدة العاملة التي تمتلك تنظيماً محكماً. وهكذا، عندما هُزمت الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تمكن البطريرك الماروني الياس الحويك من قيادة الفريق المنادي بلبنان الكبير ذي العلاقات المميزة مع فرنسا. وكان مشروع لبنان الكبير هذا، فكرة طرحها قبل ذلك المثقف الماروني بولس نُجَيم في بدايات القرن العشرين. وما يثير الاهتمام في هذا الطرح، ويتصل بالبحث الحالي، ليس ما أورده نجيم من حجج اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية لتبرير هذا المشروع (فقد تم التعبير عنها بأشكال مختلفة من جانب آخرين)، لكن بالأحرى، مطالعته التاريخية.
ولم يكن هناك ما هو غير مألوف في أن يلتمس القوميون اللبنانيون سابقة تاريخية للبنانهم المرتجى، أو أن يتطلعوا خلفهم إلى زمن جميل، حقيقي أو مزعوم. فهذا شأن معظم الحركات القومية، إذ تسمح لنفسها بهذا النوع من التمارين الفكرية. إلا أن الأمر العجيب في هذا العصر الذهبي المتخيل، مارونياً، هو أن بطل ذلك العصر كان درزياً. وقد حدث هذا بعد عقود قليلة فقط من الحرب الأهلية، منتصف القرن التاسع عشر، بين الموارنة والدروز، حيث فقد آلاف الموارنة والمسيحيين الآخرين حياتهم، واضطر عشرات الآلاف منهم إلى النزوح عن قرى آبائهم وأجدادهم. لكن هل يمكن أن تكون أسطورة لبنان فخرالدين و"دولة لبنان"، ذات منشأ أبعد زمناً من منتصف القرن التاسع عشر، أو بدايات القرن العشرين؟